مذكرات حربيَّة.


مذكرات حربيّة
– قد تحتوي النصوص الآتية رصاصات طائشة، أو ألغام بعد لم تنفجر، يرجى اتخاذ أقصى درجات التهور .
(1)
كان اليوم مليئاً بالموت، مزدحماً بصوت القنابل والصواريخ التي اخترقت حاجز الصمت والروتين الذي نعيشه ويعيشنا في سجننا الحر الكبير هذا، حيث أن شقلبة الأمور لم تستغرق الا بضع دقائق، حتى توشحت غزّة بالأسود، وتكدست جثثٌ مجهولة الهويّة على بلاط المستشفيات الذي لم تعرف المنظفات له يوماً سبيلا، وها هو دمٌ يدير محرّك العزة في سيارة الامة المهترئة، يصبح نبيذاً أحمراً ينافس نبيذ فرنسا في كؤوس أصحاب الكروش .
بعد إنقضاءِ جلُّ الغارات الافتتاحية لهذه الحرب، أصبحت رنّة أي هاتفٍ تحملُ طابعاً مختلفاً، وكأنما سكن الموتُ كلّ المكالمات، وبات يسير منتقياً بين البيوت، ولايخفى إلا على من يخفى عليه، أنّ بيتنا الصغير لم ينل نصيباً ” جامدًا” من الألم فيما سبق من الحروب والاجتياحات، إلّا أنه فعلها اليوم.
كان صوت عمّي عبد الحميد متقطعاً، وكأنما ضرب حباله الصوتيّة سكين جزّار، حين طلب منّي أن أنادي والدي على وجه السرعة، لم أجد نفسي إلّا وأنا أرتجف من لاشيء، حين أمسك والدي السمّاعة، بتُّ كالطفل الصغير أتأمل تقاسيمه محاولاً أن استقي عنواناً للسواد في هذه المكالمة، ولكنّ الحزن الذي أجبر والدي على ذرف دمعةٍ ملؤها كبرياء، هو نفسه أجبرني على رفض كلّ التخمينات، كان الخبر حول عمّي الأكبر، الذي كانت علاقتنا الأسريّة معها على الدوام تشبه علاقة اللاعلاقة، مجاملاتٌ في الأعياد، وزيارات لردّ زياراتٍ سابقة، لا أكثر ولا أقل، ولكنُّه الموت الذي يخلط كلّ الأوراق، هو الموت الذي ألبس بيتنا لبوس الصمت، وجعلنا نجلس جميعاً مجتهدين في ابتلاع هذه اللقمة المرّة من المصاب الجلل .
عندما وصلت قدماي المتعثران إلى بيت جدّي، وجدته مكتظّاً بالرجال والنساء، لم يكن هذا الاكتظاظ دالاً على مناسبة قوميّة للعائلة، أو عيدٌ في رزنامة أحدهم، كان التجمُّع يبكي بصمت، كان بيت جدّي يندب ركنه الأهم، ركنه الذي غاب غياباً رمادياً حارقاً، غيابٌ أشدُّ ألماً من اليقين، أمّا أنا، فما لبثتُ حتى جلست على كرسي محاولاً سرقة بعض الوقت مع نفسي في ظلّ هذا الزحام الملبّد بالكآبة، ورحتُ أقلب الفصل الخاص بعمّي في ذكرياتي، كان رجلاً عصامياً، فلسطينياً بامتياز، كان زعتراً، لم أجد فيه عيباً واحداً، وكأن الموت المفاجئ يدخل الواحد منّا أساطير الرومان، كرهتُ نفسي لادراكي حجم روعة عمي الشهيد بعد فوات الاوان، كرهت نفسي لامتلاكي أشياءً كثيرة كنت أودُّ أن أبوح لها بها، فغدرني وغدره الوقت.
 جلس الجميع على بوابة الدار، ينهشون لحم الأمل، بسبب عدم عثورنا على جثته، بأن يكون ربما قد نجا بأعجوبة، هذا الأمل الذي لن يستطيع الصمود أمام سيّارة اسعاف بضوءٍ أحمر تأتي مسدلةً ستار الشك، أو مسعفٍ ينقل الخبر المفرح المحزن .
لفرط ألم الانتظار، والاحتمالات، ولفرط حزني، عدتُّ إلى غرفتي وإلى القلم الذي لا يقبل القسمة على شكِّ ويقين، عدتُّ متمنياً رحمةً لعمي ولكل الشهداء، وميتةً لي جازمةً لا ضباب فيها .
27/12/2008
(2)
أن تجلسَ وأنتَ تعلم أنّ أي قذيفةٍ بالقرب قد تفتتك، أن تأكل مع احتمال أن يكون رغيف الخبز هذا آخر ما تتناول، ذلك ليسَ شيئاً بسيطاً، هو مؤلمٌ جدّاً، قد تنجو، قد تفقد طرفاً، قد تموت، لكن الشيء الأكيد، أنّك أبداً لن تبقى كما كنت .
أما تغيُّر الواقع بكلّ تفاصيله، وانحدار الحياة إلى خانة الاهتمامات الثانويّة، وتحوّل جميع الناس إلى أهلك وأقربائك، فذاك هو وقع الاحتلال، يجمعنا بنفس القدر الذي تفتت به الصواريخ أجسادنا المهترئة .
28/12/2008
(3)
في كلّ أنواع العلوم، لكلّ شيء حدُّ واضحٌ وصريح، الماء مثلاً يغلي عند درجة غليانه، ويتجمّد عند الصفر حسب الأخ سيليزيوس، ولكن السؤال الذي يحيرني، أيُّ علمٍ خرافيِّ هذا الذي رغم موتنا المنسكب كالمطر، لم يعلن بعدُ وصول أمتنا إلى درجة الغليان، أو حتّى تزحزحها عن درجة التجمّد .!
29/12/2008
(4)
ثمّ ماذا يعني أن أموت
وماذا يعني أن تموت
ذاكَ لا يعني شيئًا سوى
جسداً إضافياً يملأ التابوت
وشقائقُ النعمان تنمو
فوقَ رابيةٍ جديدة
وتذكرةً صوب الفرح
ومساحةً بيضاء للركض
على مسافةٍ فردوسٍ إلى الأعلى
من قوس قزح .
1/1/2009

 

 

 

4 تعليقات to “مذكرات حربيَّة.”

  1. متشرّد Says:

    كالرصاصة
    .. مدويّة ، مختزلة و قاتلة !

    *

    مصافحتي
    – محمود ، وطالب توجيهي أيضاً!

    (F)

  2. Mahmoud Omar Says:

    أهلاً بك يا صديق، وأهلاً مفعول به لفعل محذوف، أرجّح أن نسأل عن اعرابها في الاختبار النهائي .. 🙂

  3. رحمة حجة Says:

    م و ج ع ة . . . ف ل ت س ق ط ك ل ا ل ن ظ ر ي ا ت و ا ل ف ر ض ي ا ت . . . أ و ل م ي ق ل ن ي و ت ن أ ن ل ك ل ف ع ل ر د ف ع ل . . . الخ
    ف ف ي ع ا ل م ن ا ا ل ع ر ب ي ل ا ث ب ا ت إ ل ا ل و ج ه ا ل ح ا ك م و ت ا ب و ت ا ل ا ع ت ق ا ل

  4. Mahmoud Omar Says:

    قدرنا صديقتي رحمة، وما ان ننتصر حتّى تصبح مذكرات ..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: