أهديكَ السلام*


قالوا لنا صغارًا: إن مصر هي ” بعدكم الجغرافي الفسيح “، كم كانت غبيةً حصص الجغرافيا. مصر أيُّها السادة بالنسبة لنا نحن الفلسطينيون عمومًا، الغزيّين خصوصًا، ليست سوى مصر، بزحمتها، أضوائها، عبثيتها والرتابة، ليست بعدًا ولا قربًا، وقطعًا ليست بالنسبة لنا، نحن الذين لا نفهم الوطن في أرض الوطن، قطعًا ليست وطنًا. كيف نفسّر بداهة ” الوطن العربي ” إذاً ؟، نفسرها بالغباء، بالتعوُّد، الوطن العربي، الشرق الأوسط، وكوكبة من مصطلحات مذيعة حصاد اليوم التي نهزُّ رأسنا موافقين على كلامها، كلامها الذي لا نفهم نصفه، ونلعن عقولنا مليون مرة لأننا فهمنا نصفه الآخر. كلامي غير مقنع ؟ طيب سؤال : مصر هي الشقيقة الكبرى، من هو الوالد ؟، هل تخيل أحدكم قبلاً من يكون الوالد ؟، وهل السودان مثلاً الشقيقة الوسطى ؟، ما هذه الفوضى في صلات القربى ؟، أرأيتم ؟، لا أنت قرأتم فقط، قرأتم وأسأل الله أن تكونوا قد اقتنعتم، أن مصر ليست منفىً، ليست وطنًا، مصر هي مصر، بمقاهيها، وشوارعها، بسياراتها الفارهة، وتُكتُكاتها!

ما سبق، هو لي ولكن بصيغة الجمع، إيّاكم أن تظنوا أنني أكتب محاولاً ايضاح الصورة أمامكم، كلُّ واحد مسؤول عن عينيه، ووجهة نظره،  أمّا ما يلي هو لي، أكتبه بشكل أقل لؤمًا، دون تأويلٍ ولا أساطير من الاغريق، أرمي من يدي جهاز تغيير القناة، وأطفئ التلفاز، أجلس على شرفةٍ جلس عليها كثرٌ قبلي وبعدي، أدير غطاء القلم قليلاً فيبرز ثغره الأزرق، ويبدأ بتوزيع القُبل، فاحمِ شفتيك يا قارئي، احمِ شفتيك.

قد تكونين يا مصر حبيبتي، وقد تكونين المصيبة. لربما صار لي فيكِ بيتًا بنافذة تطلُّ على النيل، ولربما تشرّدت في الشوارع، علاقتنا جاءتً مماثلةً لعلاقاتي السابقة واللاحقة، علاقة مليئة بالاحتمالات والبكاء والصراخ، شيء يمكن اختصاره موسيقيًا بشيراز، وكم أتمنى أن تمنحنا الدنيا ما يلزم لكي ننتهي بين أصابع الشيخ الضرير، ممدّدين على أوتار عوده، فأحضن الجغرافيا فيكِ، وتبثّين في التاريخ ونسأل : أنا توب عن حبك أنا ؟. من يدري ؟، الله يدري، أمن الدولة يدري، وعم عادل بائع الشاي مثلي، لا يدري.

جمال عبد الناصر ينام نومته الأبدية في قبره في مسجدٍ في كوبري القبة، والذي شتمه لا زال يرتدي الجلابيّة ويجوب الأرض يمين في شمال، الزحمة التي غنّى لها عدوية لم تحلها الجسور، والفروق الطبقية – ويا خبية الاشتراكية – لا زالت صارخة. المساجد عامرة بالناس، وكذا بيوت الخمر، قد تجد ملبسك في “سيتي ستارز” وقد تجده في العتبة، جامعة الدول العربية لن تكون مدعاةً للشتائم فحسب، بل ستصير كناية عن شارع مليئ بالنساء الفاتنات وبسطات الكتب، لكل شيء وجهين، حتى لوجهي أنا وأنا أراقب مصر، قد تراني مبتسمًا ومندهشًا، وقد تراني – ان كنت فليسوفاً – متعجبًا، أسأل نفسي : لم لا يوجد هذا عندنا ؟، وأسأل طفلاً في السابعة من عمره في الميكرو باص : بتعرف غزّة ؟، ويجيبني مقهقهًا : غزّة عاصمة فلسطين ؟، القدس يا فالح هي عاصمة فلسطين، وشكرًا لله ثم لجهلك حتى لا تسألني أنت بدورك : الشرقية أم الغربية أم ما بينهما ؟

جواز سفري ليس بحوزتي، أجوب هذه البلاد بلا جواز سفر. عندما أستلمه، قد أركض به إلى مجمع التحرير لأطلب اقامةً، وقد أركض به إلى سفارة بلد أوروبيٍّ بارد لأستلم تأشيرةً، وقد أسير به هادئًا، متزنًا، إلى معبر رفح. لم أحسم أمري بعد. لو أردت وصف الحالة مستعينًا بوزارة المواصلات لقلت : أنا أقف في ميدان لبنان، وكل ما حولي شوارع مفتوحة، عوامل كثيرة ستحدد اتجاه رحيلي، البعض يقود إلى شبه الوطن، والبعض يقود إلى قارة أخرى، والبعض – كوجه حبيبتي – يعيدني إلى الميدان .

*ما سبق، وما تلاه، أنا شخصيًا لست مهتمًا به، هذه التدوينة كُتبت لسبب واحد، أن أردّ السلام كتابةً، على الذي أهداني إياه تلاوةً، على والدي، فيا عمرًا يعقبني، يا عمرًا يبدأني، أنا أهديك من كلّ قلبي السّلام، أهديك سلامًا ناعمًا، صريحًا، دون اتفاقيّة، ودون مفاوضات، سلام شجعان لا حرب بعده، فمدّ يدك العريقة يا صاحب الظل الطويل، وهلمّ لنتصافح.

الأوسمة: , , , , , , , , , ,

2 تعليقان to “أهديكَ السلام*”

  1. متشرّد Says:

    هذا العالم واسع جداً يا صديقي، واسع بقدر ضيقه على صدورنا صدّقني، أوسع من مخيّلتك ومن جغرافيا مصر، الشارع الذي يقودك إلى غزّة قد تلعنه طوال حياتك وقد تسجد شكراً لله لأنه اختاره لك، الشوارع الأخرى مُغرية جداً للتجربة، وإلا ما العُمر يا محمود؟

    تفهم ما أرمي إليه، وسأقول أيضاً ما قالته لي نبوءتك يوماً: “لا تركد ع جنب”،
    و .. أهديك السلام أيضاً 🙂

  2. شرقاوي Says:

    انت فشيخ زي ما بيقولوا السيس في مصر، انت جامد اخر حاجه،

    حلو يا محمود

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: