تدوينة على باب سفارة إسرائيل.


يا معاول الدنيِّ الفقيري يا نسور / عم ترمح بهالجوّ وتقفش النور*

كتبت في مكان ما، مكان لن أخبركم أين يقع، أنّ الكتابة عن الثورة المصريّة لا تزال مصنّفةً بالنسبة لي تحت بند «ليس بعد»، فرغم أنّي أعيش في مصر ولست بعيدًا عن كل ما يحصل فيها، إلّا أنّ ما رأيته وعشته وسمعته، بلا ديباجات وكلام معسول وتزويق للحكي، يحتاج سنينًا من التخمير والتقطير والذوبان الهادئ كقطعة سكّر في فنجان قهوة، ليعطى حقّه إذ يتحول حبرًا على ورق. الكتابة أمانة، هكذا أراها، وحين يتعلق الأمر بثورة مصر، فالأمانة تصير أشدّ قداسةً وأكثر إيغالاً في جلد اللغة. ولذا، فهذه التدوينة، المكتوبة ذهنيَّا، على باب سفارة إسرائيل، ليست «كتابة» عن الثورة المصريّة بقدر ما هي أغنية، وتعلمون أنتم كم تضيق الروح أحيانًا، على رحابتها، بأغنية جميلة.

 

 

 

قبيل كل جمعة من جمعات الثورة المصريّة، تنتشر شائعات لا أدعي معرفة مصدرها حول المخاطر والتهديدات التي تحدق بالتحرير وأهله، ناهيك عن مخاطر ثابتة وأسباب موضعيّة قد تمنع نزول جنسية «أجنبية» (ستكون أجنبيًا إن ألقي القبض عليك حتى لو تحدثت العربيّة) إلى ميدان التحرير. مائتا ألف جندي، بلطجيّة يهاجمون منشآت عسكريّة،  هجوم للجيش على التحرير بعد انتهاء الفترة المسموحة، تلك كانت شائعات جمعة «تصحيح المسار ورفض المحاكمات العسكريّة». ومن نافل القول، أن تلك الشائعات، كسابقاتها، ما عادت تخرط مشطي ومشط الكثيرين، لا لأنها مجرد شائعات فبعضها كان قائمًا على تهديدات فعليّة، بل لأن «الخطر» المحدق بالتحرير كلما رفرف بجناحه الطاهر هو مبتغى الحجّاج إليه. الخطر هو المتعة، متعة أن تشعر أنّك مهدد، وذاهب لتصنع فارقًا، وتلبي نداءً غير نداء الطبيعة. الساعة السادسة صباحًا، على الشرفة، الهواء رطب، فنجان القهوة نصف ممتلئ، القرار ينضج على نار هادئة مثلما نضج اخوته من قبله. تلمع عين القلب هامسةً: إلى التحرير.

وصلت، أنا واثنين من الأصدقاء، مبكرين إلى ميدان مصطفى محمود، حيث اتفقت مع صديق ثالث أن نلتقي ونتوجّه مع المسيرة المخطط لها من المهندسين إلى ميدان التحرير. لم نجد أحدًا، وفعلت سمعة الميدان السيّئة ( ميدان الفلول ) فينا فعلها فاتجهنا إلى التحرير مباشرةً. كان العدد معقولاً بعد غياب طويل عن الميدان و«الصينيّة» التي كان يحميها الأمن المركزي والقوات المسلحة المصريّة من المصريين. الأعلام عادت، الشبّان، الفتيات، العائلات، المطالب البسيطة لمواطن يكتبها ويعلّقها على صدره ويأتي ليشكو همّه إلى الله والتحرير. جولة سريعة في الميدان، حديث جانبي مع صديق ( لا أحد فينا يعرفه ولكن كل من في التحرير أصدقاء )، عائلة مصريّة جميلة البنت فيها اسمها فيروز والولد اسمه زياد، ودخول باهر لألتراس الأهلي والزمالك بشعارات تعبّر عن الرأي الحقيقي لأولئك الشباب في وزير الداخليّة السابق والرئيس المخلوع. يعلو التصفيق ويبدأ التحرير بالتجلّي، يتثاءب ويفرك عينيه، لو أصغيت جيّدًا فستبدأ تسمعه إذ يدندن: صباح الخير على الورد الي فتّح في جناين مصر.

احتفالات بهدم جدار السفارة.

الذهاب إلى سفارة إسرائيل لم يكن مطروحًا في الأجندة. ليس لأنها إسرائيل وتلك سفارتها، بل لأنني، على ما تابعت، لم أجد تخطيطًا لتوجه مسيرات من التحرير نحو السفارة. صديقنا الثالث، الذي جاء في مسيرة مصطفى محمود، أخبرني قبيل المغرب بأن ثمّة من يتوجهون إلى هناك، وكان ان التقينا وركبنا سيّارة أجرة سارت بنا نحو عشر دقائق لأجد نفسي بعدها أمام حشد من الناس، بأصوات عالية، وهمّة أعلى. اقتربت من المبنى، ألقيت نظرة إلى أعلى وهمست لصديقي المجاور «أين هي؟». كنت أقصد سفارة اسرائيل طبعًا، لم أرها في مصر إلا من بعيد وبشكل ضبابي، لم أقترب منها إلى هذا الحد، وكان أن وقفت فوقها – رغم أنها في الطابق العشرين – لأول مرة في التاسع من سبتمبر وجدارها الحديث تطرقه يدٌ مصريّة.

غمرني شعور غريب. لمحت علمهم موجودًا هناك. مرّت ربع ساعة ربما، أكثر أقل لا أعلم تحديدًا، قبل أن أعود من المكان الذي يذهب إليه شخص فلسطيني عندما يقف قبالة سفارة دولته العدوة، في أكبر عاصمة عربيّة، للمرة الأولى في حياته. وبعد أن عدت، بدأت الصوت من حولي يزداد اتّضاحًا، «الدمّ المصري غالي» يرددون. شباب تضرب بالشواكيش الجزء الاسمنتيّ الأخير من الجدار وتسقط قطعة منه فيعلو التكبير، سيّارة مرسيدس بيضاء تدخل الساحة ويربط الثوار فيها الحبل ويمدّون طرفه الآخر في عمدان الأساسات، تسير السيارة ويسقط العامود الأساسي، عامودٌ لا يؤسس لجدار فحسب، بل لثقافة كاملة، ولحياة ميّتة وموحلة ومليئة بانصاف المواقف. سقط العمود الثاني، والثالث، وانهار الجدار تمامًا. فعلها المصريّون، هكذا، بكل بساطة، قدّر الشعب وما شاء فعل.

لم تنته الأغنية. أسقطوا العلم مجددًا وزرعوا في روحي وردة. نثروا في سماء القاهرة أوراق السفارة ودفعوا سفيرها إلى الركض لاهثًا نحو صالات مطار القاهرة ليغادر إلى «تل أبيب»، والقضيّة بدأت تتشعّب وتتصاعد. هل أخبركم عمّن يخشون تبعات هذه الأحداث؟ عمّن يرون أن البوصلة لا تتجه الآن نحو سفارة اسرائيل؟ ( وقد لا تتجه أبدًا بالنسبة لهم ) هل اخبركم عمّن يرفضون الاحتفال بهكذا انتصارات «وهميّة» ؟ عمّن يبحرون في ملكوت الخيال وينسجون خيوط مؤامرة حيكت لدفع الثوار لفعل ما فعلوا لتبرير انقضاض لاحقٍ على الثورة؟. ولو أخبرتكم ذلك كلّه، هل أخبركم ما أملك من أسباب لأقول وأنا واثق أنّه كله هراء مركّب بمهارة، وهلاوس تعزفها ريشة انعدام الثقة، والفهم المغلوط للغضب الشعبيّ- لا برأيي فحسب، بل برأي شريحة عريضة من ثوّار مصر، وشعبها الذي يكره إسرائيل بالفطرة-، لن أفعل هذا ولا ذلك، سأقول فقط أنني ممتن، لمصر، للمصريين، وللفرصة التي سمحت لي أن أغنّي بصوتي العالي أمام سفارة اسرائيل،: “يا ملوك الظلم يا عروش الحرير، مش هَيك شرع الكَون بكره رح يصير ولا هيك بتضل مركبة الدني مشلولة بتجرّها عقول الحمير“، وأردد مع جمع آخر من الأنبياء: ارفع راسك فوق .. انت مصري.

الصورة من هذا المكان.

الأوسمة: , , , , , , , , , ,

9 تعليقات to “تدوينة على باب سفارة إسرائيل.”

  1. الشيخ زرياب Says:

    وردة للنشوة العارمة، وردة للخيال، وردة للعفويّة والبساطة، وردة للنخب الذي سنشربه دائما.

  2. رحمة محمود Says:

    عن جد.. أنا ممتنة للمصريين.. وأحب هذه المفاجآت- على ما يبدو- في ثورة الشعب الجميل، وكذب المحللون السياسيون ولو صدفوا في التنبؤ.. كل شيء الآن أصبح ممكنًا.. لا بل أكثر من الإمكان.. ومبسوطة إني لقيت في تدوينتك أكثر مما كنت أبحث عنه، أكثر من وجهة نظر.. أقرب إلى الحقيقة 🙂

  3. Hakim Says:

    يخرب بيت سنينك، إيه ده كله، إيه ده؟

  4. Ahmad Yaz Says:

    غني يا رفيق غني للقاهرة الجميلة غني 🙂

  5. مسابقة المئة تدوينة من فلسطين | The contest of 100 Blogposts from Palestine » تدوينة على باب سفارة إسرائيل Says:

    […] اسم المدون/ـة: محمود عمر رابط التدوينة الأصلية […]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: