زرت البارحة سوقاً للملابس والبضائع القديمة داخل كنيسة القديس ستيفان التي تبعد عن مكان سكني مسافة قصيرة يمكن قطعها سيراً على الأقدام. كلّف بناء الكنيسة فرنسيّة الطابع قرابة سبعة آلاف جنيه إسترليني بمقاييس القرن التاسع عشر. فَتحت الكنيسة أبوابها للصلاة عام ١٨٧٣، وما هي إلا سنوات قليلة بعد ذلك حتى ضمّت في طابقها السفلي مساحةً تعليميةً تحوّلت في وقت لاحق إلى مدرسة ابتدائيّة. وبعد أن خفتت حماسة الناس للصلاة كما هو معلوم، أصبحت الكنيسة مفتوحة للاستعمال المجتمعيّ. تؤجَّر لفعاليات متنوّعة وتقف على الناصية معظم أيّام السنة تقضم أظافرها من فرط الشعور بالملل.
امتدّت السوق الملوّنة في صحن الكنيسة وعلى طرفي أعمدة تعلوها أقواسٌ توشّحت بأضواء خافتة. وقبالة المذبح، جلست فرقة موسيقيّة مكوّنة من رجلين وإمرأة. يعزفون معاً أغنيات تملأ نصف الهواء وتترك النصف الآخر لتفاعل النّاس مع المعروضات التي تنتمي إلى أزمان صار الكلُّ يحنّ إليها، رغم أن أهلها كانوا بدورهم يحنّون إلى أزمان سابقة. أمّا المدخل فضمّ خمس طاولات تقريباً لعائلات جلست لشرب الشاي في أطقم الفناجين الصينية مع كعك البرتقال والجزر والليمون.
قسم الملابس كان نسائياً إلى حدٍّ بعيد. أمّا الجزء المخصص للرجال فكان مقتصراً على عدد قليل من القبّعات وربطات العنق والأحذية البنية المنقوشة. شملت المعروضات أيضاً خرائط قديمة لأميركا اللاتينية والشرق الأوسط الملعون، وكتباً مختومة بختم ما زال يحتفظ ببريقه الأزرق منذ ثلاثينيات القرن الماضي. شاهدت في السوق أيضاً بابور كاز وقد حوّله صاحبه إلى ما يشبه المصباح المكتبيّ. حرّك البابور قلبي؛ فذكرياتي معه ما زالت طريّة. رائحة المادة النفطيّة، وعود الكبريت المرميّ في عين البابور، وتلك الذراع المعدنيّة التي كان يتوجّب خضها مراراً حتى يصبح الاختراع الذهبيّ الثمين جاهزاً للاستعمال.
أحسد الإنجليز على شغفهم بالقديم، وقدرتهم على الاحتفاظ به. يغريني الوصلُ وقد كان القطع سمة حياتي الأهم. أحسد الإنجليز على هذا الخيط الرفيع من الاستمراريّة التاريخيّة. لكلِّ شيء في هذه البلاد أرشيف في مكان ما. قطع من حكاية متواصلة ومليئة بالجشع الذي ابتلع نصف الكرة الأرضية تقريباً. علب الملح والفلفل الأسود، حقائب الجلد، أسطوانات الموسيقى، فساتين الثلاثينيات المزركشة، أطقم فناجين الشّاي الذي يحبّه الإنجليز مغموراً بالحليب، ونظارات شمسيّة يعلم الله وحده ما ارتسم أمام أنظار أصحابها الأوّلين من صور ومشاهد.
هذه بلادٌ لم تُستعمر. لا يبني أهلها البيوت لكي تعيش إلى الأبد، لكنها تفعل ذلك أحياناً من دون قصد. أمّا نحن فنبني بيوتنا كي تعيش إلى الأبد، نُكرمها ونُغدق عليها بالباطون المسلّح الذي دُفعت أثمانه من عرق ولحم ودم، لكنّ البيوت تظلّ عرضة للزوال في أي لحظة. يصعُب تخيّل طائرات الإف ١٦ وهي تقصف لندن وضواحيها. لم يدخل جيشٌ غازٍ هذه المدينة منذ وقت طويل. لم تتعرّض مؤخراً لأيّ حصار يحوّل أسعار مواد البناء والسجائر والدقيق والخضار إلى أرقام فلكيّة. ليس في تاريخها قطعة مقضومة أو عظمة مفقودة. كل هذا أصبح، إلى حد بعيد، خارج الخارطة التي تنظُم العيش اليوميّ وتراكم الأشياء. أمّا أنا، فمن بلاد ما تزال مستعمرة ومهشّمة ومضطرةً كلَّ يوم لمحاولة إثبات أحقيّتها في الوجود.
تربطني علاقة مضطربة ومتوترة بالبيوت والاستقرار. قضيت أيّامي الأولى في هذه الدنيا في غرفتين بُنيتا على عجل على سطح عمارة مكوّنة من عدة طوابق في مشروع إسكاني يَهدفُ لمحاولة تحسين الأوضاع المعيشية لآلاف اللاجئين الذين غمروا قطاع غزة بعد النكبة. اختفت الغرفتان مع الأيام. لم يعد ممكنًا العودة إليهما وإلى ذلك السطح الذي أتذكر أحياناً، وبكثير من الضبابية، مشهد حوافِّه المليئة بعواميد الكهرباء وأسلاكها التي لطالما كانت مهبطاً مفضلاً لطيور الحمام المتعبة. انتقلتُ بعد ذلك إلى بيت بالإيجار عشت فيه عاماً أو عامين. أتذكّر عودتي إليه من الروضة في أيام الشتاء البارد. أتذكر باب البيت الأحمر العريض والقفل الحديديّ الصلب الذي يلتصق به من الداخل. لكن هذا البيت أيضاً صار جزءًا من الماضي، وكذا البيتُ الذي أنهيت فيه دراستي الثانوية تحت سقف من الأسبسبت الأبيض المموّج بالرماديّ، والبيت الذي سافرتُ منه إلى القاهرة قبل تسع سنوات تقريباً فطلّقته من قلبي طلاقاً بائناً.
أتمنّى لو كان عندي القليل مما عند الإنجليز دون أن أستعمر أحداً أو أنتصر على أحد. أن أحظى، مثل أهل هذه البلاد، بخطٍّ زمنيّ متصل، وبنوافذ مفتوحة على فترات زمنية ماضية. أن أعود إلى البيت. لكن حياتي تبدو مرهونةً لسلسلة من الأبواب التي تُفتح في اتجاه واحد فقط. ما أن أجتاز باباً من مرحلة إلى مرحلة حتّى تصبح العودة إلى الخلف متعذرة وشبه مستحيلة. الحياة في اتجاه واحد، وفي بيوت بالإيجار، وعلى عُجالة. ومن باب إلى باب، أفقد واعياً أو غافلاً شيئاً من الذكريات وشيئاً من المقتنيات وشيئاً من الثقة في الوُجهة المُفترضة لرحلتي المدججة بالارتباك. لكنني أمضي إلى الأمام، وأعيش في اتجاه واحد، وأحتفظ بأمل في أن يقودني آخر الأبواب إلى أوّلها، فتكتمل الدائرة عندما يفقد اكتمالها كلّ المعاني الممكنة.
اترك تعليقًا