Posts Tagged ‘النكبة’

دراما كوينز، أحرار، هنكمّل المشوار!

ماي 16, 2014

محمود عمر

على سيرة النكبة؛ تنتمي عائلتي التي هاجرت من قرية «بيت طيما» بعد النكبة إلى عشيرة «السماعنة» التي تتوزّع اليوم على فلسطين وسوريا والأردن ومصر التي تضم قرية باسم العشيرة في محافظة الشرقيّة. وعشيرة «السماعنة» هذه بطنٌ من بني مهدي، وهم قبيلة من بني عذرة التي سكنت المدينة المنورة ونُسب إليها الحبُّ العذري الذي ساد بين شبابها وانتشر.

وقد حكم أجدادي بنو مهدي إمارةً لهم في بلقاء الأردن مدة تفوق الخمسة قرون قبل أن يأخذوا ملوخيّاتهم بدري بدري ويتوجّهوا غربًا. كانت إمارتهم أيّام عزّها تمتدّ لتشمل مما نراه اليوم محافظات عمّان وإربد والزرقاء، وكانوا أيّام الدولة العثمانية مسؤولين عن حماية طريق الحجّ قبل أن يدخلوا في العصيان في أوائل ستينيّات القرن السّابع عشر (بنحب نجر شكل من يومنا) ويمتنعوا عن دفع الرسوم للدولة. وبعد تسلِّم الأمير جودة المهداوي زمام الأمور في إمارة البلقاء، بدأت الدولة العثمانيّة تعدّ العدّة للإطاحة به مستعينة بقبائل أخرى في البلقاء وما جاورها، وقد انتهت الحرب التي دامت خمسة وعشرين عامًا بين بني مهدي والدولة العثمانية إلى هزيمة المهداويين وشتاتهم.

keep-calm-and-be-a-dramaqueen-2انتقلت عشيرة السماعنة جرَّاء الحرب وما صاحبها من فتن إلى فلسطين، ونزلوا أوَّل ما نزلوا في الخليل. وذكرهم الزبيدي المتوفّى عام 1791م في تاج العروس قائلاً: السماعنة بطنٌ من العرب في بلد الخليل عليه السلام. وبعد فترة، اقتتل السماعنة مع أهل المناطق الأصليين في معارك كان من أشهرها معركة خربة عيد الميّة، ونزحوا على الأثر إلى شمال سيناء ومحافظة الشرقيّة بمصر، وقرى بيت نتيف وصميل وترقوميا قضاء الخليل، وإلى السّوافير ودير سنيد وبيت طيما التي هاجر منها جدّي عام 1948 إلى مخيّم جباليا في قطاع غزّة.

من اليمن إلى الحجاز إلى الأردنّ إلى الخليل إلى غزّة؛ أنا لاجئ من ظهر لاجئ من ظهر لاجئين. هكذا إلى أن يصل بنا النسب إلى قبيلة قضاعة التي قال البعض بعدنانيّتها، نسبة إلى عدنان وهو الجدّ العشرين للنبي محمّد، في حين قال البعض الآخر بقحطانيِّتها، نسبة إلى قحطان جدّ العرب العاربة الذي يرجع نسبه إلى سام بن نوح – وأنا، في الحقيقة، أفضِّل هذا الاحتمال لما في حكاية نوح من هجرة ولجوء؛ ذلك أنني غاوي نكد بطبعي.

يعني هذا العرض السريع أشياء كثيرة منها، ولعلّه أهمها، أنني وجميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي، الشهير بجميل بثينة، أقارب. بالأحضان يا ابن عمّي بالأحضان!

ليس جميلة بثينة على نفس مستوى الشهرة مع قيس بن الملوّح؛ لكن ابن عمّي جميل لايزال مشهورًا إلى حدّ ما، وما يزال اسمه–كما أراد هو، ذلك العكروت– يرتبط باسم المرأة التي أحبّها دون أن يحصل عليها أبدًا: إنّه جميلُ بثينة.

هكذا تعرفه النّاس وتفهمه على الرَّغم من أنّ غالبيتهم لا تدري كيف بدأت حكايته مع بثينة. لا يعرفون أنّه التقاها في وادي بغيض، وأنّ قصة حبهما بدأت بتبادل الشتائم.. هو قال ذلك بنفسه:

وأوّل ما قاد المودَّة بيننا .. بوادي بغيضٍ يا بثينُ سِبابُ

كان لكتاب صادق جلال العظم «في الحبّ والحبّ العذريّ» المنشور قبل عقود إسهام في تثبيت وجود جميل في الذاكرة. أراد المفكِّر السوري تحطيم أسطورة الحبّ العذريّ الذي عادة ما نُسب إلى جميل وإلى قبيلته، وحسنًا فعل. أنا على قناعة، لمعرفتي بجميل وللشبه بيني وبينه، أنَّه كان ليسعد لو قرأ الكتاب، لكنك بلا شكّ كان سيترك بعض الملاحظات.

نظريّة العظم في غاية البساطة: كان بإمكان جميل أن يكتم حبّه لبثينة لتتجنب الاشتباك مع قانون القبائل، لكنّه صرّح به مدركًا العواقب. كما كان بمقدرة جميل -وهو الفارس الجميل- أن يطلِّق بثينة من زوجها ويظفر بها، لكنّه لم يفعل ذلك أبدًا. ومن هنا، يحاجج العظم بأنّ جميل ليس العاشق المخلص، المحكوم بالعفاف والهائم على وجهه لاستحالة وصوله إلى محبوبه، كما صوَّرته لنا عديد من المؤلّفات ذات العلاقة.

يقول العظم، واتفق معه فيما يقول، بأنّ جميل كان يريد العذاب، وأنّ علاقته بالمحبوبة (والتي يصفها العظم بالزنا في القلب – وهنا أختلف معه) استمرّت بعد زواجها من غيره؛ ما يعني أنّ جميل كان يريد المزيد من المشاكل، ضاربًا بعرض الحائط كلّ التقاليد والعادات، وباصقًا في وجه مؤسسة الزواج. بل ويتعدّى الأمر ذلك ليصل إلى حدود أنّه، مستغلاً وضعه وقوّة قبيلته، كان يتردد على بيت بثينة فيعجز زوجها وأهلها عن ردعه. هو نفسه تحدث عن ذلك:

إذا ما رأَوني طالعًا من بثينةٍ .. يقولون مَن هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحبًا .. ولو ظفروا بي خاليًا قتلوني

يستنتج العظم ما يلي: لقد كان ابن عمي جميل دونجوانًا. لكنّه، على عكس الدونجوان الذي يتنقَّل من امرأة إلى أخرى، فضَّل أن يكون دونجوان إمرأة واحدة فقط، وأن تكون بثينة دونجوانته وحده. بلغة اليوم الدراجة: لقد كانا، هو وبثينة، «دراما كوينز» بامتياز.

قرأت الكتاب أوّل مرة قبل سنوات، وحين أعدت قراته مؤخرًا، لم أستطع إلا أن أشعر بشبه كبير بيني وبين جميل. نحن، في نهاية المطاف، أقارب وأولاد عمومة. أنا أيضًا على علاقة غير وطيدة مع مؤسسة الزواج ومع كلّ مظاهر الاستقلال والالتزام. أنا أيضًا لا أملك إلّا أن أشعر بأن موسيقى ستصدح عندما أقرأ : «متى ظفر العاشق بالمعشوق مرّة واحدة، نقص تسعة أعشار عشقه».

يقسو جلال العظم علينا قليلاً، ولا يفهم تمامًا أنّ «الإنسّان علّته الإنسان». يعيب على جميل، وعليَّ بالتسامي، أن نكون «دراما كوينز». لكن، أتعرف ماذا؟ فليذهب العالم إلى الجحيم. نحن لا نملك إلا أن نكسر القواعد، أن نسكت عندما يتوجّب أن نتكلّم، وأن نتكلّم حين يُطلب منّا السكوت. ما لا يفهمه العظم بالحدّ الكافي هو أننا، وإن كنَّا، أنا وجميل، ننتمي لسلالة عشَّاق مهزومين كما تقدّم؛ فإنّ هذا لا ينفي أننا ثوّار لا يُعاد انتاج هزيمتنا إلا عبر إعادة إنتاج ثوراتنا وهجراتنا. أن سعادتنا المَرضيّة بالألم وسعينا وراءه لا يعني انتفاء ما له من آثار مدمّرة.

كم نحن غلابة!

نحن تمامًا كما قدّم لنا ووصفنا الجاحظ في واحدة من رسائله: المستمتعين بالنعمة، المؤثرين للذّة، المعدّين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمرواءات.

كان جميل يدرك أنّ انتصار الثوّار سيعني أنهم لم يعودوا ثوارًا، بل صاروا شيئًا آخر. كان هذا ما يرعبه، تمامًا مثلما يرعبني. أن تتزوّج بثينة، وبثينة هنا مجاز مطبق. أن تستسلم وتمشي جنب الحيط، أو أن تصل بالصخرة إلى قمّة الجبل، تضعها من بين يديك، تنظر من حولك ولا تجد ما تفعله. والألعن: لا تجد ما تحكي عنه. 

وكأنّها البارحة

مارس 24, 2012

ربّما لأن الحنجرة أضيق من مقاس كلمة صادقة لم يكن جدّي يتحدث عن مشاعره كثيرًا. أقول هذا الآن فقط. راقبته طوال حياتي, يمشي, يأكل, يدخّن ويجلس طويلاً على أمام البيت في المخيّم على كرسيّه الأصفر مراقبًا الهواء لساعات طويلة. كانت مهنته قريبة جدًا من حقل المشاعر –كان يدفن الموتى- ومع ذلك لم يعبّر عمّا يدور بخاطره أبدًا. كان قليل الكلام بوجه محايد. وددت كثيرًا لو ألقيت نظرة على قلبه لأعرف كيف يعمل, على ماذا يتغذّى. سألت جدّتي عدّة مرات إن كان يصارحها بأشياء في خلوتهما وظلّت تجيبني دائمًا نفس الاجابة: جدّك رجّال، والرجّال لا يعبّر عن مشاعره.

ربما لم تقدر جدتي على اعطائي اجابة غير تلك في حياتها ولكن موتها سيغير المعادلة. لن يقدر جدّي على أن يكون مغلقًا وهو يكفّن شريكة حياته, لابدّ أن وجهها الشّاحب سيسرق ولو دمعة من عينه، هكذا ظننت، لكنّ تغسيلها تم, وبعد ذلك دفنها، وجدّي لا زال كما عرفته دومًا, بوجه لا يوحي بأيّ شيء.

عندما انتهى بيت العزاء, وعاد الصمت يشغل آذاننا في بيتنا الواسع, كنت على وشك أن أفقد الأمل بأي تغيُّر حقيقي. سرت وكأسا الشّاي في يدي إلى الغرفة لأجلس مع جدّي المتمدد، للمرة الأولى، على الأرض دون زوجه. جلست وأعطيته كأسه، ارتشف منه قليلاً, وضعه على الأرض ثمّ انفجر بالبكاء.

(more…)

Ilan Pappe – التطهير العرقي في فلسطين

نوفمبر 9, 2010

يا الله، يا ربّ هذا الكون، كيف تكون الحقيقة مكتوبة بهذا الوضوح ومرفقةً بالدلائل، ونكون مع ذلك جاهلين ؟. إنها لمصيبة تامّة أن لا تعرف كيف بدأت القصّة، ومن أين بدأت، ومن شارك فيها، ومن نأى بنفسه، وإنّها لمصيبة أشد وأكبر، أن لا تجبرنا معرفتنا على الجهر بالحقيقة، وعلى اعتزال النفاق والمحاباة. إنّ تفاصيل التفاصيل مطلوبة مني ومنك، ذلك أن بندقية تجهل سبب وجودها، وتجهل وجهتها الفعليّة، بندقية رصاصها مرتد، وزنادها رخو كأصابع حاملها.

(more…)

باب الشمس | من الأوّل

أكتوبر 17, 2010

 

من الأوّل، من أوّل الأول، من الجليل، دير الأسد، الغابسيّة، شعب، ترشحيا، من بيروت، برج البراجنة، تل الزعتر، شاتيلا، من عمّان، القاهرة، من فلسطين، ومن الأوّل الأوّل تبدأ هذه الرواية الكبيرة، تبدأ بالنكبة، تحكي عن النكبة، وعن المنكوبين، وتأخذ في نهايتها القارئ إلى جانب هادئ من الثورة الفلسطينية، نعم للثورات جوانب هادئة، لكننا نجهلها لأننا نجهل كيف نبدأ من الأوّل، لا نقتنع بان الثورات، بأن الموت، انما وجد لتحقيق المستحيل، لا الممكن، الممكن يمكن عمله في مختبر، أمّا النصر فيحتاج ثورةً، وموتًا وحبّا، ورواية.

“باب الشمس” رواية كبيرة جدًا، ولا أقصد هنا صفحاتها التي تتجاوز المئات الخمس، أقصد فحواها، إنها رواية كبيرة، فيلم وثائقي مكتوب وممتد على مدى عقود، ضفائر سوداء وناعمة لا سلطان عليها إلا للريح. وكأيّ كبير، فإنّ انطباعي عنها كبير، كرهتها، وأحببتها، مللت منها، وملّتني، لكنني أكملتها، من ألفها إلى يائها، من الغيبوبة إلى الغيبوبة، ومن نهيلة 1، إلى آخر إصدار من نهيلة التي صرخت في وجه محققي الأرض ” أنا شرموطة ” فخرجت من قسم الشرطة تقطر شرفًا. السيرة الذاتية للكاتب الياس خوري سيرة متشعبة، لكنها لم تقنعني بتاتًا أن ذلك يكفي لكي يكون روائيًا جيدًا، الذي أقنعني هو ما كتب، ما أخرج، ما فتح من أبواب في باب الشمس.

(more…)


%d مدونون معجبون بهذه: