لكلّ واحدٍ عدسته الخاصّة. الله له عدسة زرقاء ضخمة اسمها السماء، ووكالات الأنباء والصحفيّون المستقلّون وغالبيّة النشطاء الأجانب لهم عدساتهم السوداء على الأرض. جنود الاحتلال أيضًا لهم نصيب، في بنادقهم الحديثة عدساتٌ صغيرة مثبتة بحرفيّة على ظهر البنادق كي تسهّل وضع الهدف في الـ:”Focus”. أقول الـ”Focus” لأنّ اللغة الانجليزيّة ذات أهميّة بالغة في مجالي التصوير والاحتلال، حتّى أن الفعل المستخدم فيها لوصف التقاط الصور، وإطلاق النار, هو الفعل نفسه: Shoot.
يخبرنا المخرج الايطالي مارتن سكورسيزي أنّ السينما هي عملية انتقاء لما سيكون داخل الإطار، واستبعاد لما سيكون خارجه. ومن نافل القول أنّ الأدوات المستخدمة في إنتاج المادة السينمائيّة من كاميرات ومؤثّرات وتجهيزات إضاءة وميكروفونات، يجب أن تكون لا خارج الإطار السينمائيّ فحسب، بل وخارج إطار خيال المشاهد. بكلمات أخرى: يجب أن يتأثّر المشاهد ويصدّق ما يراه، ويتحوّل على إثر ذلك إلى “شاهد” على الأحداث التي باتت تجري أمام ناظريه، لا أمام عدسات الكاميرا.
في الضفّة الغربيّة يختلط الحابل بالنّابل، ولا تنطبق مستلزمات الحقيقة ولا اشتراطات السينما. قرية النبي صالح التي يمكن اعتبارها نظرًا لموقعها الجغرافيّ “بؤرة” فلسطين، تعطي مثالاً واضحًا. تدرك أنت إذ تتابع أنباء وصور مظاهراتها الأسبوعيّة أنّ ما يحدث ليس مشهدًا من فيلم. هذه الدموع المنهمرة على خدّ فتاة صغيرة دموع حقيقيّة وليست مكمّلاً جماليًا للقطة حزينة ترافقها موسيقى تصويريّة ناعمة. هذا الجنديّ الذي يلفّ ذراعه حول عنق صبيّة في ربيع ثورتها مستعمرٌ من ظهر مستعمر، وليس ممثلاً سيدخل بعد قليل غرفته الخاصّة ليمسح المكياج ويخلع عنه البدلة العسكريّة مرتديًا ثيابًا أكثر ملائمة للطقس. كل شيء حقيقي وفاعل: قنابل الغاز، البنادق، الجيبات العسكريّة، الجدار الفاصل، كلّ شيء. ومع ذلك لا يسعك إلا أن تشعر أنّ “الصورة” مرتبكة ومربِكة.
يرى الله كل ذلك (كما يرى كل مظاهر القمع والظلم الأخرى في العالم ) ويصّوره بدقّة HD من خلال عدسته الضخمة، ولكنه يفضّل عدم التدخل مباشرة. يقول لنا المتديّنون في معرض التفسير: تلك هي “الإرادة الإلهيّة” التي قد لا يتجلى مرامها السّامي للانسان البسيط، والتي لا يجب أن يطرح الخوض في أمرها تساؤلات حول الشهامة والمواقف. ولكن، ماذا عن البشر؟، ماذا عن اتخاذ القرار في الدماغ، تمريره عبر اشارات الجهاز العصبيّ الكهربيّة إلى العضلات، ليتحوّل إلى جهد فيزيائيِّ مرئيٍّ قادر على إحداث التغيير؟ كيف والأمر يتعلّق بأشخاص مستعمَرين تتراكم الدهون في عضلاتهم ولا مجال – كما أخبرنا فانون- لتصريفها إلا عبر الفعل المقاوم؟.
عندما يحيط سبعة مصورين أو أكثر بجنديين يضربان أو يسحلان أو يحاولان اعتقال شاب أو فتاة, يتراصّون ببلاهة على مسافة لا تتجاوز الخطوة الواحدة من “مسرح الأحداث”، بعضهم يحني ظهره كي يضبط “الشوت”، والبعض الآخر يحاول تقريب الميكروفون قدر المستطاع، وكلّهم يتصرف وكأن لا وجود لشخص آخر غيره، هل يكون الأمر عاديًا_حقيقيًا؟. لو كان ذلك مشهدًا سينمائيًا لما رأيت كل هذه الكاميرات، ولو كان حقيقة مطلقة (حقيقة بالنسبة لكلّ العناصر الظاهرة في الصورة) لما رأيت كلّ هذه الكاميرات. فما الذي يحدث بالضبط؟، ولماذا يتكرر برتابة فجّة ونسق بغيض؟ هل هذا هو “الحياد الصحفي” يتجلّى على مسافة قصيرة من جلاد وضحيّة؟
لا يحاول كاتب هذا المقال الخوض في النوايا أو التشكيك في الأهداف أو التقليل من أهميّة تلك الفعاليّات المقاوِمة. جلّ ما في الأمر أنني إذ أشاهد الصور ومقاطع الفيديو من مظاهرات قرية النبي صالح، او معتقل عوفر، أو حاجز قلنديا ويظهر لي هذا الكمّ الهائل من العدسات داخل الإطار، في تجمّع أقرب إلى العبثيّة، تصيبني الحيرة. هل انتهى الأمر أم أنني سأسمع عمّا قريب صوتًا خافتًا جدًا يقول .. Cut؟!