Posts Tagged ‘حماس’

عن السيادة المصريّة وأنفاق رفح، حبيبة قلبي.

مارس 14, 2013

محمود عمر

عامل أنفاق في صورة مع السيادة المصرية.

عامل أنفاق في صورة مع السيادة المصرية.

تغيّرت معاملة الفلسطينيين في مصر ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتغيّرت معها أساليب طرحهم وقضاياهم في الإعلام المصري. لقد إزداد الأمر سوءًا. الفلسطينيّون، حسب الإعلام المصري ولفيف من الرسميين المصريين، في كلّ مكان. إنّهم يقتحمون السجون، يسرقون البضائع والسيّارات والمحروقات والكهرباء ويحتلّون، في أوقات فراغهم، شبه جزيرة سيناء. عندما يشتدّ الضغط، ويتأزم المشهد، يرسل الفلسطينيون نخبة مختارة من المقاتلين المقنّعين لحماية قصر الرئاسة المصري. الأنفاق على الشريط الحدود بين رفح المصريّة ورفح الفلسطينيّة، وفق نفس المنطق، هي ما مكّنتهم من فعل ذلك كله، إنّها إكسيرهم السرّي، وخنجرهم المسموم.

العقليّة البائسة التي أنتجت كل ما سبق وأكثر من الخزعبلات هي نفس العقليّة التي حكمت، تحت عناوين مختلفة، هذا البلد الممتد صحراءً وحزنًا، على مدار عقود طوال. الثورة التي أطلقها شباب ملّوا الغبار والمصاعد المعطلة لم تتمكن بعد من حسم الأمور تمامًا؛ لم تتمكن -بعد- من إدارة الدفّة، وتصويب البوصلة. العَجزة لا زالوا في الحكم، ملتحين وغير ملتحين، ولا زال الإسقاط الفوقي للمعلومات، منذ أرساه عبد الناصر، وعمّده السادات، يعمل بسلاسة غير معهودة في بلد الانسداد المروري والسيستيم الواقع.

آخر ما جادت به القريحة: اتّهام عناصر من حماس بالتخطيط لقتل الجنود المصريين في منطقة الماسورة في رفح، انتقامًا من الجيش المصري لهدمه الأنفاق. لا أدلّة، لا تحقيق جدّي، دولة برمّتها لا تبالي بمواطنيها وترمي بالتهمة والمسؤولية على المُشيطنين ذوي اللهجة الرثّة. رخيص هو المصريّ عند دولته وولاة أمره، أرخص من أن يبحث في أمر موته، سواء مات على الحدود، أو في قطار محترق، أو برصاص الداخليّة.

ليست الأنفاق “شريان حياة”  وممرًا لمستلزمات الحياة اليوميّة فحسب.  إنّها نوعٌ من القفز فوق الحاجز، استعمال أمثل للعقل البشري، نموذج تجب دراسته في ميكانيزم الاختراق. الأنفاق، في حسابات المناكفة، بصقة في وجه من ظنّوا أنهم حبكوها جيّدًا، إسرائيليين وعربًا وأمريكان، وفي حسابات الجغرافيا، كسبٌ للناس على طرفي الحدود، وإسألوا بدو سيناء وأهلها اللذين لا قيمة ولا معنى لهم في حسابات القاهرة ونخبتها التي تنظّر عن سيناء وما زارتها يومًا.

عندما حفر الفلسطينيّون في غزّة الأنفاق بعدما أغلق العالم أبوابه في وجههم، لم يبالوا لا بسيادة مصريّة ولا قوانين دوليّة. وكيف لهم أن يبالوا؟ هذا الكلام الكبير يصغُر أمام رغبة إنسان فرد واحد في أن يرتاح. يشبه الأمر أنّ تفك حزامك، والزرّ الأول من البنطال، بعد وجبة غداء دسمة. هذه الرّاحة بعد ضيق، هذا الانشكاح الانسانيّ بامتياز، لا مردّ له ولا هويّة. لو كان الأمر متعلقًا بغير الفلسطينيين لفعلوها، لو كانت الجغرافيا مغايرة لتمّت. إنّها ألف باء بشريّة. من لم يفهم الأنفاق ويستشعر حلاوتها وهي التي مكّنت عشّاقًا من اللقاء وعائلات أن يلتم شملها، فلا خيار أمامه إلا أن يراجع إنسانيّته.

حاول كثيرون إنهاء الأنفاق باعتبارها ظاهرة يتفوّق فيها من هم تحت على من هم فوق. أجهزة السلطة الأمنيّة كانت قد أعدّت قبل سنوات خطة تفصيلية يتم تنفيذها بالتعاون بين السلطة، إسرائيل والجيش المصري. ذهبت الخطة ومن وضعها أدراج الرياح. قصفت إسرائيل الأنفاق غير مرّة، قصفوها بصواريخ ارتجاجيّة، بأعقد وأحدث ما جادت به القريحة العسكريّة الأمريكيّة، ولكن عَبس. حاول المصريّون، ضخّوا فيها الغاز، كهربوها، ملأوها بمياه المجاري، ولكن عَبس.

حفرها الفلسطينيّون مجددًا، وأعادوا تنظيم اللوجيستيك بحيث تكون الأنفاق شبكة متداخلة، وللنفق الواحد عدّة أعين. المعركة الذهنيّة بين من يدهن السور، ومن يكتب له عليه “مبروك الدهان الجديد” في القاهرة كانت هي نفس المعركة بين من يهدم الأنفاق ومن يحفرها في رفح، وفي الحالتين الغلبة كانت للمبدع. للرّاقص فوق الأرض، وتحت الأرض ويوم العرض على التاريخ. 

لن تنتهي الأنفاق إلا بانتهاء الوضع المشوّه الذي استدعى حفرها، وفتح المعبر للبضائع. لا يشمل ذلك المعطى أنفاق تهريب السلاح التي إن أرادها البعض مغلقة، كان لزماً عليه توفير السلاح شرعيًا. شيطنة الفلسطينيين في مصر هي نصيبنا من بؤس الدولة المصريّة المتفاقم، وسياسات المؤامرة والعدو المترصّد التي تجري فيها مجرى النَفس. لا يعني ذلك أن نصمت على ما يكال من اتهامات بلا أدلّة ولا شواهد. مهمٌ أن نتحدث، أن نشرح، أن ننفي، وأن نحاجج من أمنوا جانب اسرائيل واستعدوا حفنة من الفلسطينيين بمنطق الحقّ والحقيقة. الأهم، أن لا نكره، رغم كل ما نرى ونسمع، جوار مصر وقربها، وأن لا نكرهها جوارنا وقربنا، وأن ندفع جميعًا في الإتجاه الذي سيحسم كلّ شيء، ويزيل كل لغط ويشفي كل سقم، إتّجاه الثورة، مصريّة كانت أم فلسطينيّة. 

15 آذار، مرَّة أخرى.

مارس 14, 2011

قبل ثلاثة عقود من الآن، وفي مثل هذه الساعات من صباح الخامس عشر من آذار، كان وفدٌ من منظمة التحرير الفلسطينيّة يدق باب بيت سعيد المغربي في حيّ الطريق الجديدة في بيروت، حاملاً معه وصيَّة مكتوبةً باللون الأحمر، ووعودًا لا تُنكث، إن أخلف بها البعض، تلقفها البعض الآخر عازمًا على تحقيقها كاملةً كاستدارة بدر في منتصف سماء العاشقين. فُتح الباب وفُتح القلب، وقرأ سعيد المغربي وصيّة ابنته الشهيدة دلال، مسح ما تستطيع كفّه الوصول إليه من دموع، وترك الباقي منها يسقط بصمت في عيونٍ داخليّة. “لا تذرف دمعًا كثيرًا؛ فلقد صرت بنتًا للبلاد” بهذا ختمت دلال وصيّتها لأبيها، وكتبت في الباقي من الرسالة، بعبقرية فتاة من يافا، مولودة في صبرا، ما لا يمكن لنا أن نخونه، أو نلتفّ حوله؛ ذلك أنّ وصيّة الشهيد هي طلقته الأخيرة التي يسحبها من مخزن بندقيته، ليتركها لمن بعده، ومن يخون رصاصةً، ويطلقها في غير وجهتها، إنما يقتل نفسه، ويمثّل بجثث تدفن بدمها نقيّة .. لا تُغسّل.

أمّا الخامس عشر من يناير، والخامس والعشرون من نفس الشّهر، والسابع عشر من فبراير، فكلُّها تواريخ حديثة على الذاكرة الفلسطينيّة. لم يحدث أن جلسنا، نحن الفلسطينيّون، بجسدنا الثقيل المليء بالرضوض و الرصاص المستورد من أمريكا، على إختلاف مستورديه، بأحلامنا وقضيّتنا المليئة بالورد والأشواك، من يعيش منّا وراء الخطّ الأخضر، ومن يعيش أمامه، ومن يعيش في الشتات، وفي المنفى، وفي السجون، لم يحدث أن جلسنا جميعًا واتحدنا في شيء آخر غير الموت جماعاتٍ أمام الصّاروخ، اتحدنا أمام التلفاز!. نعم .. هذا على الشّاشة خطٌ أحمرُ عريض، وهذي مسيرة، لكنّ الذي يموت ليولد بشكل آخر، وعلى غير العادة، لا يتحدث لهجتنا، إنّه يتحدث نفس اللغة، لكنّ اللهجة مختلفة، هذا تونسي! هذا مصري! هذا ليبي!، أين الفلسطيني؟، إنّه يجلس على أريكته، محاطًا بزجاجات تقتبس الثمالة والأوجاعَ والنسيان والذاكرة، محاطًا بالسجائر المطفأة وأهازيج ظريف الطول، في غرفة علّق طمعًا في حبّ الله على جدرانها آياتٍ من القرآن وترتيلةً للقدّيس شربل وصورةً لأمّ المخلّص؛ جلس الفلسطينيّ ليتابع للمرّة الأولى قصفًا بالطائرات لا يعقبه قصيدة تقول جرّبناك، ولا إتصال من مراسل أو فتحٌ لمعبر رفح ولا – ويا أسف الآسفين في أقاويلٍ أخيرة – إشعالاً للشّموع في مكان ما مدوّر !

(more…)


%d مدونون معجبون بهذه: