قرأت على هاتفي المحمول قبل قليل كثيراً مما نشرته هنا على مدار سنوات. ولقد تملّكتني بعد ذلك رغبة للإعتراف بشيئين اثنين. الأوّل: أن كثيراً مما قرأته أعجبني. وعندما حاولت كعادتي أن أتتبّع منبع هذا الإعجاب وصلتُ إلى احتمالٍ مفادهُ أن وقتاً كافياً قد انقضى لأقرأ ما قرأت وكأنه نصٌ متحررٌ من علاقتي الشخصيّة به. أي أنني قرأتُ شيئاً منفصلاً عنِّي تماماً دون أن أتذكَر بالضبط ملابسات وقوع الحادثة. لعلّ الوقتَ يُخرِج النصّ المكتوب من غرفنا الشخصيّة إلى غرفة خاصّة يستأجرها النصّ لنفسه وقد شبَّ ولمعت عيناه. يؤثث النصُّ غرفته كيف يشاء، ويعلّق على جدرانها ما يشاء، ويستقبل فيها ضيوفه بحلوهم ومرِّهم.
وثمّة احتمال آخر لإعجابي الذي وَضعته ظُلماً وافتراءً تحت أكثر من مجهر. يلعب الإحتمال الثاني لعبة الغمّيضة مع الزمن ويفيدُ بأن قراءة النصوص بعد كل هذا الوقت كانت فعلاً مخصيِّاً ومحكوماً تماماً للحنين الذي لا يُنتِجُ أبداً صورةً واقعيةً، بل مجمَّلة وكاذبةً، عن الماضي الذي انتصر على ماضويّته بأن اخترع الحنين سيفاً مسلطاً على رقبة المرء حتى آخر لحظة في حياته.
أما الشيءُ الثاني الذي أردت أن اعترف به فهو أنني ما زلت أخاف من الكتابة. لم أكتب هذا من قبل. لم أكتب أنني أخاف من الكتابة، وأنني أخاف منها منذ فترة طويلة نسبياً. لكن ها أنا أكتب ذلك في مفارقة منطقيّة شديدة التفاهة. أخاف من الكتابة لأنني، عندما كتبت، كتبت دون توجّس ولا قلق. دون تردد ولا حسابات. كانت الكتابة ممارسة حرَّة تماماً، ومحققةً للذات. أعرف أنّ هذا الفهمَ للكتابة واسعٌ إلى درجة تجمعُ دون خجل بين أعظم الكتّاب في التاريخ ومراهقين يخطون خطواتهم الأولى في مسيرة التفرِّد والفرادة التي غالباً ما تنتهي بالوصول إلى استنتاجات غير سارّة.
إنَّ الهول الحقيقيّ للكتابة لا يكشف عن نفسه بسهولة. الحياة بهذا المعنى بالكاد تكفي ليحاول الإنسان أن يفهم فعلاً ما الذي فَعَله، وما الذي ترتَّب على هذا الفعل. أقف أنا عند هذا المفترق تماماً. أكتب، في مصادفة بحتة، في اليوم الأوّل من رمضان، وأنظرُ إلى فعلتي وما ترتَّب عليها وأحاول أن أفهم ما الذي جرى بالضَّبط. وكيف ترك “هذا الذي جرى” في داخلي سلسلة معقَّدة من المشاعر والنزعات الذهنيّة والحساسية المفرطة التي عادة ما يصحبها، أو يعقبها، لامبالاة مطبقة كتلك التي يتمتّع بها الأخدود العظيم في ولاية أيرزونا.
سأقضي يومي غداً مع ماكس فيبر. يجب أن أراجع ما قاله الرجل حول البيروقراطية والدولة والمصادر الشرعيّة للسلطة. سأحاول أن أنسى أنني أقرأ ماكس فيبر لأنّ الجامعة تريدني أن أقرأ ماكس فيبر. سأحاول أن أقرأه لأنني أحبّ ذلك. وأنا أحبّ ذلك فعلاً. لكن الحبّ إذا ما اشتمّ عن مسافة سفر أربعين يوماً رائحة الإلزام فإنّه يتعكَّر. خديعة أخرى يكتشف المرءُ تَعرّضه لها متأخراً: القراءة في مؤسسة مضبوطة ومليئة بالتقييم والاختبار ليست كقراءة الهاوي الذي يستعين بالنصّ المكتوب، بالدرجة الأولى، ليقنع ذاته بأنه أكل العالم على الغداء قبل أن يأكله العالم على العشاء. قلت ذلك لدكتورتي التركيّة معوِّلاً على تشابه مستقبلاتنا الذوقيّة في التعامل مع الأشياء هنا في العالم الأوّل الجميل المليء بالخراء.
أخبرتها أن الجامعة، في أحد جوانبها، ما هي إلا موقع تقع فيه كل يوم مجزرة ضحيّتها واحدة: الحماسة. أنت تتعلّم؛ يعني هذا أنّك تقف شاهداً على قتل حماستك بأشدِّ الطرق لباقة. يجب أن تموت الحماسة لتصير قادراً على التعبير عن رأيك دون أن تقول حقاً أيَّ شيء. لكن هذا الواقع المؤسف لا يختصر كلّ الجامعة، ولا كلّ تجربتي معها. فأنا أحبّ، بمعنى ما، الأشياء التي أدرسها، وكانت عندي على امتداد العام المنصرم رغبةٌ في تسخير المزيد من الوقت لهذه الأشياء وللأشخاص الذين صادفتهم وأصادفهم أثناء هذه المغامرة. قابلتُ وصادقتُ مثلاً طالبة اسبانية كان أبوها صديقاً شخصياً لياسر عرفات إذ أهداها الرئيس الرمز هدية عند ولادتها. قالت لي اسم الهدية بالانجليزية وطلب مني أن أقول لها المفردة العربية. فأخبرتها وقتئذ وأنا أقلَّب مشروعنا الوطني في رأسي: شخشيخة. الرئيس أهداكي شخشيخة.
أعتقد أنني أحاول بكل كتابتي هذه أن أطرق في الخفاء على أبواب موصدة. أتمسّك بشيء من الإنكار الذي يعفيني من أي مسؤولية محتملة. أنا لم أكتب شيئاً. أردت فقط أن أقول أنني قرأت كثيراً مما كنت قد كتبته هنا. وقد أعجبني نسبياً. أمّا أسباب هذا الإعجاب فقد أتيت على ذكرها ولا داعي لأن أكرر نفسي.