Posts Tagged ‘سيرة لاجئ’

لا تزد الطين بلّة. لا تشتر الوردة.

ماي 26, 2014

محمود عمر

بالإضافة إلى عربات الكستناء المشويّة والكعك المرشوش بالسمسم وأفوّاج السيّاح الهدّارة بمن فيها من عجائز يبحثن عن فرص ملائمة للموت، وشباب أقسم أن يعبر إلى تركيّا ويكيّف، وبائعات هوى، وجنود سابقين في جيش إسرائيل، ورجال أعمال صينيين، وتجار أقمشة سوريين، يمكنك أن تجد في شارع الاستقلال في قلب اسطنبول الكثير من بائعي الورد. يقف هؤلاء على مسافات من بعضهم البعض ويحملون في أيديهم بضاعتهم التي يلفُّونها بأشرطة من القماش الأبيض وترتسم على وجوههم ابتسامة في غاية البلاهة.

ومثلما تحتدّ عينا صّقر في رحلة صيد، تحتدّ أعين بائعي الورد بحثًا عن الطريدة. وطريدة هؤلاء ذات طابع مزدوج: شاب وفتاة يتأبطان بعضهما البعض، أو رجل وزوجته يتمشيان في دعة في هذا الشّارع التجاريّ العريق. بعد تحديده الهدف؛ يقترب بائع الورد وقد دفع بالابتسامة على وجهه إلى حدّها الأقصى، ويمدّ على زبونيه المُحتملين وردة حمراء يريد لها أن تُمثِّل أكثر مما هي عليه حقًا. أن تكون تتويجًا لشيء ما.

tumblr_n580gbLMwb1rouua1o10_1280أمّا على كوبري أكتوبر أو قصر النيل في القاهرة فجرت العادة أن يُستعاض عن وردة اسطنبول الحمراء بعقد صغير من الفلّ الأبيض. عالمنا هذا، في نهاية المطاف، مليء بالفروقات الثقافيّة التي تفرض نفسها حتّى على نوع النبات الملائم لعلاقة حب مُفترضة. في بعض المدن، لا يخضع النبات المعروض للبيع على حساب الحبّ للتغيير، بل للإلغاء التّام. في متنزّه الجنديّ المجهول في غزّة (وهذه نعتبرها مدينة على سبيل التقريب لا أكثر) يمكنك أن تجد الكثير من بائعي الشاي والقهوة، لكنك ستكون بلا شك في موقف نادر إذا ما اقترب منك أحدهم وأنت تسير إلى جوار صبيّة ما وعرض عليك –بدلاً من فنجان الشّاي أو القهوة- أن تشتري وردة!

في لحظة اتخاذه قرار البدء في معاملاته التجاريّة، يمزج بائع الورد في عقله بين أمرين. الأمر الاوّل ذو طابع ذاتي يتعلّق بشخصه وقدراته العقليّة. يفترض بائع الورد بأنّه قادر على كشف الحبّ والتعرّف عليه ويقرر بناءً على ذلك الشروع في مسيرة مهنية يرتبط الربح فيها ارتباطًا عضويًا باللعب على وتر خجل العاشق أمام معشوقه، أو خجل الزوج أمام زوجته. أمّا الاعتبار الثاني فهو متعلّقٌ بطبيعة الحبّ وتجلياته التي تكرر نفسها بإيقاع رتيب في الفضاء العام. في لندن مثلاً، وهنا يسمح الفضاء العام بما لا يسمح به في مدن كإسطنبول والقاهرة، فإنّ رؤية شاب وفتاة يتمددان على العشب وقد انكبّا على تقبيل ومداعبة تصبح بعد فترة معيّنة من الوقت جزءًا لا يتجزّأ من الحديقة العامّة تمامًا مثل المقاعد ونقاط المعلومات. 

يعني هذا أنّ بائع الورد، بعد افتراضه المبدئيّ بأنه يملك ما يؤهله كي يكون “كاسحة مشاعر بشريّة” فإنّه يسخّر كلّ إمكانات ذاكرته وحصيلة مشاهدته وما قرأ وسمع كي يستحضر ويكثّف الـ”داتا” التي ستساعده على إثبات فرضيّته ووضعها موضع التشغيل: إمساك الأيدي أثناء المشي؛ وضع اليد على الكتف أو حول الخصر، التشارك في كيس كستناء واحد، التقبيل بسبب وبدون سبب، النظرات الشبقة أو أن يقوم الرجل بإطعام المرأة بيديه؛ أو العكس.

ما لا يدركه بائع الورد –وهنا تبدأ مرحلة خلافنا الجذريّ معه– هو أنّ طبيعة المنتج الذي اختار تسويقه والفرضيّة التي اعتنقها (وهي، كما تقدّم الذكر، فرضيّة أنّه “كاسحة مشاعر بشريّة”) تدفع به لأن يكون مثل الغريب الذي دخل –بنيّة حسنة– مسجد القرية الوادع دون أن ينزع من رجليه حذاءه المتّسخ بالطين.

يمكن لنا أن نتفهم الفقر والعازة وضيق الحال، بل إنّ من واجنا الإنسانيّ أن نتفهم ذلك وأن نتمنّى التوفيق لكلّ صغار الكسبة الذين يركضون وراء لقمة العيش في شارع الاستقلال مثلما نتمنّى الدمار والخراب للماركات العالميّة الموجودة في نفس الشارع، لكن هذا لا يعني أن نتسامح، ولو كنّا نرزح تحت ضغط المظلوميّة الاجتماعيّة، مع فعل على درجة عالية من قلّة الذوق مثل دخول المسجد بالحذاء!

إذ أنّ بائع الورد، على عكس بائع الكستناء والكعك والشّاي والقهوة والمكسّرات، ما أن يطلّ برأسه حتى يهمّ بكسر ما لا يجب أن يُكسر أو أن يمسّ بسوء في زمن الاستهلاك والتكرار المقيت الذي نعيش فيه. والمقصود هنا هو الطابع الثنائيّ بالغ الخصوصيّة للعلاقة العاطفيّة، والذي يساعدنا –نحن المنخرطين فيها– على أن نقنع أنفسنا، زورًا وبهتانًا، بأن ما نعيشه من معترك عاطفيّ مليء بالقلق والعرق والتقلّبات ليس أمرًا قابلاً للكشف، هكذا، بسهولة، وبحدّ أدني من الجهد. نحن نعرف أنّ علاقتنا العاطفيّة موّال غناه قبلنا الملايين، وسيغنيه من بعدنا الملايين، لكننا لا نريد أن يخبرنا أحدٌ بذلك. 

أمّا بائع الورد فإنّه ما أن يمدّ يده كي يعرض على زبونيه البضاعة حتى ينتفي عنها غلاف الخصوصيّة الهش وتصير مكوّنة من ثلاث أفراد: الشّاب، الصبيّة، وبائع الورد. تحدث عملية الاختراق فجأة وبدون مقدمات ويصير بائع الورد، لدقيقة أو دقيقتين، جزءً من المشهد. ينام بين الحبيب والحبيبة في منتصف السرير ويتابع معهما فيلم السهرة ويبدي رأيه في العلاقة برمّتها. كأنّ به يقول “انا أعتقد أن علاقتنا (علاقتنا!) بحاجة لأن يشتري أحدكما للآخر وردة. هاك وردة”.

إنّ هذا الاقتحام في غاية الخطورة؛ لاسيّما أنّ أحد المحبوبين عادة ما يخضع –إمّا تحت تأثير الخجل من نظرات محبوبه، أو تحت وطأة إغراء اقتراف الابتذال– إلى شراء الوردة بالفعل، وبذلك تكون أركان المصيبة قد اكتملت. لا يساهم الحبيب إن هو اشتري الوردة في جعل ما يربط بينه وبين حبيبته يرتد ليحيل على ملايين قصص الحب المجترّة فحسب، بل إنّه يرد أيضًا على بائع الورد قائلاً: “نعم، أعتقد أنّك محق. هذه العلاقة بحاجة إلى وردة. هاك ثمنها”.

إنّ النصيحة الواجبة لكلّ بائعي الوردّ حول العالم هو أن يغيّروا مجال عملهم إلى منتجات أقلّ إثارة للاشمئزاز والمشاكل. الفستق المملّح مثلاً. أمّا النصيحة الواجبة لكلّ عشاق العالم فهي أن لا يزيدوا الطين بلّة. بكلمات أخرى، أن لا يشتروا الوردة.

مرئيّات البؤس في حضرة الحبر الأعظم

ماي 22, 2014

محمود عمر

نُشر هذا المقال في جريدة السّفير.

دأب أصحاب القضايا العادلة في مرحلة تاريخيّة سابقة على كشف المواضع التي تقاطع فيها نضالهم مع النضال الفلسطينيّ وتشابه معه. كان الفلسطينيّون في نضالهم ضدّ المنظومة الصهيونيّة مثلاً يحتذى ونموذجاً يملك مقوّمات وجوده المستقل والمتفاعل صحيًا مع نضالات الشعوب المُستعمرَة. أمّا معاناتهم فكانت معاناة قائمة في حدّ ذاتها؛ متحررة من هاجس المنافسة المرضيِّ على دموع العالم واهتمامه.

 لوحة شفاء الكسيح للإسباني موريّو (1670)

لوحة شفاء الكسيح للإسباني موريّو (1670)

نَسفت اتفاقية أوسلو هذه الحالة التقدميّة، وأدخلت الفلسطينيين في زقاق بالغ الضيق والقسوة. ومن هذا الزقاق، بدأت في تسعينيات القرن الماضي رحلة البحث عن النموذج والصور الشبيهة. التجأ البعض تحت وطأة انحسار هامش السياسة ومحاولات ضرب التربة الاجتماعيّة في الأرض المحتلّة إلى جبال الأوراس في الجزائر، قبل أن تطلّ جنوب أفريقيا برأسها في مرحلة متقدّمة وتفرض نفسها وخطاب “الفصل العنصريّ” على السّاحة.

بعد يوحنا بولس الثّاني وبيندكت السّادس عشر، يحلّ البابا فرانسيس الأول ضيفاً على “الأراضي المقدّسة” في زيارة تبدأ في صباح الرابع والعشرين من أيار، وتنتهي مع غياب شمس السّادس والعشرين من الشهر نفسه. سيهبط البابا في عمّان قبل أن تحمله، في اليوم التالي، طائرة مروحيّة أردنيّة إلى بيت لحم التي سيلتقي فيها محمود عبّاس ويزور مغارة الميلاد ويقضي بعض الوقت مع أطفال من مخيمات الدهيشة وعايدة للاجئين قبل أن يتوجّه إلى “إسرائيل”.

وقعت على عاتق اللجنة الرئاسيّة الفلسطينيّة لشؤون الكنائس مسؤولية الاستعداد لزيارة الحبر الأعظم. بدورها، أوعزت اللجنة إلى “المتحف الفلسطيني” (وهو قيد الإنشاء) بتصميم مرئيّات يتمازج فيها الوجع الفلسطيني الرّاهن مع لوحات مسيحيّة من القرون الغابرة. ستعلّق المرئيّات في ساحة المهد ومخيّم الدهيشة حتى يراها الضيف ويتأثّر بها قبل أن يكمل رحلته إلى مصنع إنتاج البؤس الفلسطينيّ في تل أبيب.

يقدّم العنوان المُختار لهذه المرئيّات، بالإضافة إلى ماهيّتها، أمثلة صارخة على عقليّة الزقاق ومحاولات إيجاد الحيّز في مسرح العالم والسرديّات الميثولوجيّة الغالبة فيه. “ضع إصبعك على الجرح وتأكّد من حقيقة وجودي”، بهذه الكلمات التي خاطب فيها المسيح توما المشكّك بقيامته، يخاطب الفلسطينيّون البابا فرانسيس الأوّل. يفترض القائمون على الفعاليّة بشكل شبه أوتوماتيكيّ أنّ البابا يشكك في الجرح الفلسطينيّ، ولهذا فهم يحاولون إقناعه.

لكنّ البابا لن يضع إصبعه من خلال المرئيّات على الجرح الفلسطينيّ، بل على الجرح الفلسطينيّ الملتبس بجروح زمن السيّد المسيح. سيرى الحبر الأعظم النصف السفليّ للوحة الرسّام الهولندي رامبرانت التي تظهر إبراهيم وهو على وشك التضحية بإسحاق، قبل أن تمتدّ يد ابراهيم خارج اللوحة لتصير يد جندي إسرائيليّ في الأرض المحتلّة. كما سيرى أيضاً النصف الأيسر للوحة الرسّام الاسباني موريّو التي تظهر شفاء المسيح لرجل كسيح، فيما سيحجز الجدار الأمني الذي أنشأته إسرائيل نصف اللوحة الأيمن.

ربّما، لو نُزعت هذه الأعمال من سياقها وتم النظر إليها باعتبارها منتجات مستقلّة، لوجب القول إنّ فيها من الإبداع والألمعيّة الشيء الكثير. لكنّ هذه المرئيّات في سياقها الذي أُنتجت فيه وفي ظلّ العلاقة التي تربطها بمشروع الحكم الذاتيّ الفلسطينيّ لا يمكن أن توصف إلا بأنها إبداعات بائسة يشوبها الخجل والتسوّل العاطفي، تماماً مثلما كان الحال مع الصور التي انتشرت في مرحلة سابقة ومزجت بين مشاهد راهنة في الضفة الغربيّة، وأخرى من الهجمات النازية على يهود أوروبا.

لا يحتاج الفلسطينيّ أن “يقنع” أحداً غير نفسه بجروحه وآلامه. كما لا يحتاج الفلسطيني، بالتأكيد، إلى دعم أولئك الذين يطلبون إثباتاً، صريحاً أو مستتراً، على أن شلال الدم ليس عصير طماطم. السيّد المسيح نفسه قال ذلك لتوما: “لأنك رأيتني بنفسك فقد آمنت. مباركون هم أولئك الذين لم يروا، ومع ذلك آمنوا”.

دراما كوينز، أحرار، هنكمّل المشوار!

ماي 16, 2014

محمود عمر

على سيرة النكبة؛ تنتمي عائلتي التي هاجرت من قرية «بيت طيما» بعد النكبة إلى عشيرة «السماعنة» التي تتوزّع اليوم على فلسطين وسوريا والأردن ومصر التي تضم قرية باسم العشيرة في محافظة الشرقيّة. وعشيرة «السماعنة» هذه بطنٌ من بني مهدي، وهم قبيلة من بني عذرة التي سكنت المدينة المنورة ونُسب إليها الحبُّ العذري الذي ساد بين شبابها وانتشر.

وقد حكم أجدادي بنو مهدي إمارةً لهم في بلقاء الأردن مدة تفوق الخمسة قرون قبل أن يأخذوا ملوخيّاتهم بدري بدري ويتوجّهوا غربًا. كانت إمارتهم أيّام عزّها تمتدّ لتشمل مما نراه اليوم محافظات عمّان وإربد والزرقاء، وكانوا أيّام الدولة العثمانية مسؤولين عن حماية طريق الحجّ قبل أن يدخلوا في العصيان في أوائل ستينيّات القرن السّابع عشر (بنحب نجر شكل من يومنا) ويمتنعوا عن دفع الرسوم للدولة. وبعد تسلِّم الأمير جودة المهداوي زمام الأمور في إمارة البلقاء، بدأت الدولة العثمانيّة تعدّ العدّة للإطاحة به مستعينة بقبائل أخرى في البلقاء وما جاورها، وقد انتهت الحرب التي دامت خمسة وعشرين عامًا بين بني مهدي والدولة العثمانية إلى هزيمة المهداويين وشتاتهم.

keep-calm-and-be-a-dramaqueen-2انتقلت عشيرة السماعنة جرَّاء الحرب وما صاحبها من فتن إلى فلسطين، ونزلوا أوَّل ما نزلوا في الخليل. وذكرهم الزبيدي المتوفّى عام 1791م في تاج العروس قائلاً: السماعنة بطنٌ من العرب في بلد الخليل عليه السلام. وبعد فترة، اقتتل السماعنة مع أهل المناطق الأصليين في معارك كان من أشهرها معركة خربة عيد الميّة، ونزحوا على الأثر إلى شمال سيناء ومحافظة الشرقيّة بمصر، وقرى بيت نتيف وصميل وترقوميا قضاء الخليل، وإلى السّوافير ودير سنيد وبيت طيما التي هاجر منها جدّي عام 1948 إلى مخيّم جباليا في قطاع غزّة.

من اليمن إلى الحجاز إلى الأردنّ إلى الخليل إلى غزّة؛ أنا لاجئ من ظهر لاجئ من ظهر لاجئين. هكذا إلى أن يصل بنا النسب إلى قبيلة قضاعة التي قال البعض بعدنانيّتها، نسبة إلى عدنان وهو الجدّ العشرين للنبي محمّد، في حين قال البعض الآخر بقحطانيِّتها، نسبة إلى قحطان جدّ العرب العاربة الذي يرجع نسبه إلى سام بن نوح – وأنا، في الحقيقة، أفضِّل هذا الاحتمال لما في حكاية نوح من هجرة ولجوء؛ ذلك أنني غاوي نكد بطبعي.

يعني هذا العرض السريع أشياء كثيرة منها، ولعلّه أهمها، أنني وجميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي، الشهير بجميل بثينة، أقارب. بالأحضان يا ابن عمّي بالأحضان!

ليس جميلة بثينة على نفس مستوى الشهرة مع قيس بن الملوّح؛ لكن ابن عمّي جميل لايزال مشهورًا إلى حدّ ما، وما يزال اسمه–كما أراد هو، ذلك العكروت– يرتبط باسم المرأة التي أحبّها دون أن يحصل عليها أبدًا: إنّه جميلُ بثينة.

هكذا تعرفه النّاس وتفهمه على الرَّغم من أنّ غالبيتهم لا تدري كيف بدأت حكايته مع بثينة. لا يعرفون أنّه التقاها في وادي بغيض، وأنّ قصة حبهما بدأت بتبادل الشتائم.. هو قال ذلك بنفسه:

وأوّل ما قاد المودَّة بيننا .. بوادي بغيضٍ يا بثينُ سِبابُ

كان لكتاب صادق جلال العظم «في الحبّ والحبّ العذريّ» المنشور قبل عقود إسهام في تثبيت وجود جميل في الذاكرة. أراد المفكِّر السوري تحطيم أسطورة الحبّ العذريّ الذي عادة ما نُسب إلى جميل وإلى قبيلته، وحسنًا فعل. أنا على قناعة، لمعرفتي بجميل وللشبه بيني وبينه، أنَّه كان ليسعد لو قرأ الكتاب، لكنك بلا شكّ كان سيترك بعض الملاحظات.

نظريّة العظم في غاية البساطة: كان بإمكان جميل أن يكتم حبّه لبثينة لتتجنب الاشتباك مع قانون القبائل، لكنّه صرّح به مدركًا العواقب. كما كان بمقدرة جميل -وهو الفارس الجميل- أن يطلِّق بثينة من زوجها ويظفر بها، لكنّه لم يفعل ذلك أبدًا. ومن هنا، يحاجج العظم بأنّ جميل ليس العاشق المخلص، المحكوم بالعفاف والهائم على وجهه لاستحالة وصوله إلى محبوبه، كما صوَّرته لنا عديد من المؤلّفات ذات العلاقة.

يقول العظم، واتفق معه فيما يقول، بأنّ جميل كان يريد العذاب، وأنّ علاقته بالمحبوبة (والتي يصفها العظم بالزنا في القلب – وهنا أختلف معه) استمرّت بعد زواجها من غيره؛ ما يعني أنّ جميل كان يريد المزيد من المشاكل، ضاربًا بعرض الحائط كلّ التقاليد والعادات، وباصقًا في وجه مؤسسة الزواج. بل ويتعدّى الأمر ذلك ليصل إلى حدود أنّه، مستغلاً وضعه وقوّة قبيلته، كان يتردد على بيت بثينة فيعجز زوجها وأهلها عن ردعه. هو نفسه تحدث عن ذلك:

إذا ما رأَوني طالعًا من بثينةٍ .. يقولون مَن هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحبًا .. ولو ظفروا بي خاليًا قتلوني

يستنتج العظم ما يلي: لقد كان ابن عمي جميل دونجوانًا. لكنّه، على عكس الدونجوان الذي يتنقَّل من امرأة إلى أخرى، فضَّل أن يكون دونجوان إمرأة واحدة فقط، وأن تكون بثينة دونجوانته وحده. بلغة اليوم الدراجة: لقد كانا، هو وبثينة، «دراما كوينز» بامتياز.

قرأت الكتاب أوّل مرة قبل سنوات، وحين أعدت قراته مؤخرًا، لم أستطع إلا أن أشعر بشبه كبير بيني وبين جميل. نحن، في نهاية المطاف، أقارب وأولاد عمومة. أنا أيضًا على علاقة غير وطيدة مع مؤسسة الزواج ومع كلّ مظاهر الاستقلال والالتزام. أنا أيضًا لا أملك إلّا أن أشعر بأن موسيقى ستصدح عندما أقرأ : «متى ظفر العاشق بالمعشوق مرّة واحدة، نقص تسعة أعشار عشقه».

يقسو جلال العظم علينا قليلاً، ولا يفهم تمامًا أنّ «الإنسّان علّته الإنسان». يعيب على جميل، وعليَّ بالتسامي، أن نكون «دراما كوينز». لكن، أتعرف ماذا؟ فليذهب العالم إلى الجحيم. نحن لا نملك إلا أن نكسر القواعد، أن نسكت عندما يتوجّب أن نتكلّم، وأن نتكلّم حين يُطلب منّا السكوت. ما لا يفهمه العظم بالحدّ الكافي هو أننا، وإن كنَّا، أنا وجميل، ننتمي لسلالة عشَّاق مهزومين كما تقدّم؛ فإنّ هذا لا ينفي أننا ثوّار لا يُعاد انتاج هزيمتنا إلا عبر إعادة إنتاج ثوراتنا وهجراتنا. أن سعادتنا المَرضيّة بالألم وسعينا وراءه لا يعني انتفاء ما له من آثار مدمّرة.

كم نحن غلابة!

نحن تمامًا كما قدّم لنا ووصفنا الجاحظ في واحدة من رسائله: المستمتعين بالنعمة، المؤثرين للذّة، المعدّين لوظائف الأطعمة وصنوف الأشربة، والراغبين بأنفسهم عن قبول شيء من الناس، أصحاب الستر والستارات، والسرور والمرواءات.

كان جميل يدرك أنّ انتصار الثوّار سيعني أنهم لم يعودوا ثوارًا، بل صاروا شيئًا آخر. كان هذا ما يرعبه، تمامًا مثلما يرعبني. أن تتزوّج بثينة، وبثينة هنا مجاز مطبق. أن تستسلم وتمشي جنب الحيط، أو أن تصل بالصخرة إلى قمّة الجبل، تضعها من بين يديك، تنظر من حولك ولا تجد ما تفعله. والألعن: لا تجد ما تحكي عنه. 

الشّعب يريد: الانتفاضة العربيّة مستمرّة!

أوت 12, 2013

محمود عمر

في كتابه “الشعب يريد؛ بحث جذري في الإنتفاضة العربيّة” يقدّم جلبير الأشقر؛ الباحث اللبناني وأستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدوليّة في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن (SOAS)، خلاصة ما كان ألقاه من محاضرات حول مشاكل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الأعوام القليلة التي سبقت إندلاع موجة الانتفاضات العربيّة التي واكبها الأشقر، وانكبّ على مجرياتها تحليلاً ودراسة فضمّن الكتاب كشف حساب “مؤقّت” لتجلياتها في البلدن العربيّة الأكثر تأثرًا بها: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، البحرين وسوريّا. 

يرقى الكتاب الذي صدر بالفرنسيّة ونقله عمر الشّافعي إلى العربيّة، إلى مستوى عنوانه؛ إنّه بحث جذريّ بكل معنى الكلمة في الأسباب والدوافع والمحرّكات الاجتماعيّة التي دفعت في اتجاه خروج ملايين العرب هاتفين بإسقاط أنظمة وطغاة تبدو وكأنها متباينة، إلّا أنّها في حقيقتها متماثلة إلى حدّ بعيد، مجبولة على الفساد والقمع والنهب وتضييق الخناق على الفرد العربيّ و تنغيص عيشه. كما ويقدّم الكتاب-الدراسة في فصوله المتأخرة مقطعًا عرضيًا للانتفاضة العربيّة وأهمّ الفاعلين فيها ومحاولات احتوائها المستمرّة. 

في الفصل الأوّل، ونظرًا لما تتيحه الامكانات الاكاديميّة والأرشيفيّة لجامعة لندن، يتمكن جلبير الأشقر من رسم صورة عامّة للتنمية المعاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) مستندًا إلى توليفة واسعة من الدراسات والأبحاث وتقارير المؤسسات الماليّة العالميّة والإقليميّة التي يقارنها بمعطيات مناطق جغرافية أخرى، مثل جنوب أفريقيا وشرق آسيا، ليثبت فشلاً بنيويًا في عمليات التنميّة في منطقة MENA تصحّ معه القاعدة الماركسيّة التي وردت في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي، والتي تمثّل حجز الزاوية الفكريّ لهذا الكتاب برمّته:

“عند مرحلة معيّنة من تطورها، تتدخل قوى المجتمع الانتاجيّ الماديّة في تناقض مع علاقات الانتاج القائمة، وتتحول تلك العلاقات من أشكال تتطور القوى المنتجة من خلالها إلى قيود تعيق تطوّر هذه القوى. وعندئذ، تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعيّة”. 

أمّا في الفصل الثاني، فيشمّر الأشقر عن ساعديه ليحوض، متسلحًا بأدواته الماركسيّة، في عمق النمطيات الخاصّة للرأسماليّة في المنطقة العربيّة التي تعجّ بدول ميراثيّة ونيوميراثيّة تبدو ريعيّة في مجملها؛ غير مستندة على الضرائب، وغير آبهة لذلك بما لدى مواطنيها ليقولوه أو يعبّروا عنه، وتطبّق بجهد حثيث وصفات نيوليبراليّة جاهزة للتنمية والحداثة تقلّص دور الدولة المباشر في استغلال الموارد وقيادة عملية التنميّة والتشغيل. النيبوليبراليّة التي بلغت الصفاقة بأحدّ منظّريها، الاقتصادي البيروفي هرناندو دي سوتو، حدّ الإدعاء بأن ما ضحى البوعزيزي بنفسه من أجله هو مبدأ “السوق الحرّة” النيوليبرالي. سوتو قال: جاءت قوى السوق إلى العالم العربي، حتى ولو يكن بدعوة من الحكومات. ويجب على القادة السياسيين أن يدركوا أنّ العرب الفقراء، منذ أن أضرم البوعزيزي النار في نفسه وثار أقرانه مجتجّين، لم يعودوا خارج السوق بل داخله، على مقربة من هؤلاء الحكّام.

وإذ يَخلُص الأشقر في فصل الكتاب الثاني إلى أنّ ما لدينا، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من الرأسماليّة هو أسوأ ما في الرأسماليّة، ينتقل في الفصل اللاحق لمقاربة العوامل السياسيّة الإقليميّة ذات الصلة بالانتفاضة العربيّة. النفط، بطبيعة الحال، هو أوّل تلك العوامل وأهمّها، وإن كان مسمّى الفقرة الخاصة به “لعنة النفط” فإنّ الأشقر يشرح أنّ المصائب التي يختبرها الفضاء الناطق بالعربيّة ليست جرّاء وجود النفط (يفترض بهذا أن يكون أمرًا جيدًا) بل نتيجة لطريقة إدارة هذا الكنز الاستراتيجيّ واستخدامه في المحافظة على دول ريعيّة، ومبادلته بالرضا والدعم الأمريكي (والأسلحة الأمريكيّة والبريطانيّة والفرنسيّة) وحرمان الفضاء الناطق بالعربيّة من أي مردود حقيقي، ناهيك عن عدم استخدامه في أيّ صناعة تحويليّة معدّة للتصدير. 

وفقًا لتقديرات معهد التمويل الدولي، ومقره واشنطن، بلغت تدفقات الرسمايل الخارجة من دول مجلس التعاون الخليجي 530 مليار دولار خلال السنوات الخمس 2002-2006 ومن بين هذا الاجماليّ، ذهب مبلغ 300 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، و100 مليار إلى أوروبا. 

ينحى الكتاب، بعد ذلك، منحى أكثر انشغالاً بالسياسة منه في الاقتصاد، إذ يقارب مسألة “الاستثناء الاستبدادي العربي” الذي تجمع عليه الولايات المتحدة وأوروبا من حيث مطالبتهما دولاً حول العالم بمزيد من الديمقراطيّة، وصمتهما المطبق حول عقوبة الجلد ومنع النساء من القيادة في البلد-المصيبة السعوديّة بحجّة “إحترام ثقافة أهل ذلك البلد”. أمّا الإخوان المسلمون وعلاقتهم براعيتهم الأولى، السعوديّة، ومن تحولهم إلى قطر وأميرها المهووس بالسياسة الخارجيّة، فلهم نصيب لا بأس به من الاشارة والتحليل، لاسيّما وأنّ الأشقر يقتبس “اليبان الشيوعيّ” ليوصّف الإخوان المسلمين توصيفًا ماركسيًا دقيقًا: 

الطبقات الوسطى (ليست الطبقة الوسطى=البرجوازيّة) كلها تحارب البرجوازيّة للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى من التلاشي. فهي إذًا ليست ثوريّة ولكن مُحافظة بل وأكثر من ذلك، إنها رجعيّة تسعى إلى جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى. 

هؤلاء الذين يسعون إلى “جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى” هم الإخوان المسلمون الذين وعدوا النّاس بفردوس إسلاميّ مفقود، واتخذوا شعارًا أجوفًا هو “الإسلام هو الحل”، وهم -حسب ما يقدّمه الأشقر من إشارات لدراسات وأداء الإسلاميين في الحكم- نيوليبراليين يسعون إلى التخلصّ من “برجوازيّة الدولة” والدخول في برجوازيّة السّوق (زيارة مرسي إلى الصين مثالاً). وإذ يتنبأ لهم الأشقر (مثلما فعل السابقون) بنهايات تعيسة بعد خروجهم من قمقم المظلوميّة إلى نور السلطة السّاطع، فهو يفرق تمام التفريق بينهم وبين “حزب العدالة والتنمية” التركي، بل حتّى بينهم وبين الخميني. أمّا القوى الفاعلة في الثورة، والذين يتطرق لهم الأشقر ويعوّل عليهم فهم: الحركات العماليّة، حركات النضال الاجتماعيّ، والفاعلون الجديد: شباب الإنترنت. 

هل قلت مؤامرة؟

يطرق الأشقر في هذا الكتاب أبواب مفارقات سياسيّة، ونقاط تحوّل ضجّ بها “الربيع العربيّ” وانقسم عليها المنقسمون؛ تدخّل الناتو في ليبيا، تسلّح الثورة في سوريّا، وذلك في معرض تقديم “كشف حساب” لانتفاضتي البلدين. مفردة “المؤامرة” التي طفت إلى السطح (كانت قريبة منه على الدوام) بعيد الحظر الجوّي فوق ليبيا ودخول الانتفاضة السوريّة معترك التسليح هي مفردة يشيع استخدامها، حسب الأشقر، عند فئتين من الناس: مناهضو الإمبرياليّة وأهل الشرق الأوسط. وإن كان الأشقر لا ينفي (ومن يستطيع أن ينفي؟) وجود مؤامرات دائمة في هذا الجزء من العالم، إلا أنّه لا يتحرّج من التنظير داعمًا للانتفاضة الليبيّة، شارحًا أسباب ودوافع الناتو للتدخل فيها ومخرجات ذلك على الصعيد الاجتماعيّ الليبي، ومؤيدًا للثورة السوريّة التي يؤكّد أنّ تسلّحها أمر لم يكن بديهيًا فحسب، بل ومطلوبًا؛ نظرًا لطبيعة الجيش السوريّ واستناده على شريحة شعبيّة من طائفة واحدة. يقول الأشقر: 

التحليل الصحيح لطبيعة النظام السوري، ولاسيّما طبيعة قواته المسلحة، كان من شأنه أن يفضي بالضرورة إلى استنتاج مفاده أنّ النظام السوري يستحيل إسقاطه بغير حرب أهليّة. 

ولمناهضي الإمبرياليّة الذين تحرّجوا من الاصطفاف بجانب الانتفاضة السوريّة (فنّد الأشقر في موضع آخر في الكتاب هذه الحجّة المتعلقة بالامبرياليّة) لم يستخدم الأشقر مبررات ومعطيات جيوسياسيّة واقتصاديّة فحسب، بل وأخلاقيّة أيضًا إذ أورد ما قاله الثوري الفرنسي غراكوس بابوف في 1795:

تصرخون قائلين إنّه يجب تجنب الحرب الأهليّة؟ وأيّ حرب أهليّة أكثر إثارة للاشمئزاز من تلك التي يكون القتلة فيها في كلّ جانب، والضحايا العزّل في جانب آخر؟ هل بوسعكم تجريد من يريد تسليح الضحايا من القتلة؟ أوليس من الأفضل أن تقع حرب أهليّة يكون بوسع كلا الطرفين فيها الدفاع عن النفس؟

في خاتمة الكتاب، يوصل الكاتب أفكاره النهائيّة بإيضاح سابق حول أنّ الإشكاليّة بين الإسلام والديمقراطيّة إشكاليّة وهميّة، ويؤكّد أن السلطة اليوم “في الشّارع” في الفضاء الناطق بالعربيّة. الصّراع ضد النيبوليبراليّة، ورأسماليّة المحاسيب، والفساد الإدراري، وقمع الحريّات، صراع طويل والحقبة الثوريّة العربيّة لا تزال في بدايتها. يختم الأشقر بحثه الجذريّ عن الانتفاضة العربيّة المستمرّة بالقول: المستقبل يدوم طويلاً، كتب الجنرال ديغول في مذكراته خلال الحرب. إنّه لتعبير جميل عن الأمل!

موسيقى أوسلو وشيخ القبيلة.

أفريل 26, 2013

محمود عمر

نُشر هذا المقال على معازف.

في واحد من خطاباته بعد عودته إلى “أرض الوطن”، تحدّث ياسر عرفات بصراحة عن الاعتراضات التي أبداها كثيرون حول اتفاق أوسلو. وحاول، في مشهد نادر وبمنطق عجيب، أن يردّ عليها. قال “السيّد الرئيس” يومها بعد ان انتهى من ابتزاز التاريخ، والتذكير ببعض اعتراضات الصحابة على توقيع صلح الحديبيّة: “إن كان لأحدكم اعتراض على ما حدث، فأنا عندي 100 اعتراض جنبيه”. هذا الرد على ما فيه من اعوجاج ومزاودة يظلّ مُستوعبًا، إذ قاله عرفات في خطاب أمام الناس. أمّا في الغرف المغلقة فكانت ردود عرفات على بعض بطانته، ومنهم شاعره المفضّل محمود درويش، حين اعترضوا على أوسلو وادّعوا أن لفيفًا من الفلسطينيين يشاركهم الرأي، ردودًا أكثر وضوحًا ومباشرة. في أكثر من واقعة، قال “السيد الرئيس” لمحدثيه منهيًا النقاش: أنا الشعب الفلسطيني.

14533_175129219247_5488672_nفي حديثنا عن عرفات، أينما ورد تقديمه على أنّه “السيد الرئيس” فذلك مجازيّ تمامًا. عرفات لم يكن رئيسًا رغم رغبته الجارفة والمرضيّة بأن يكون كذلك. وقّع اتفاق أوسلو من أجل أن يصبح رئيسًا. عاد إلى غزّة وأريحا من أجل أن يصبح رئيسًا. أعطى أوامره بشن حملة ضد أفراد حماس والجهاد الإسلامي في التسعينيّات كي يصبح رئيسًا. لكنّه فشل في ذلك ومات، رحمه الله، على ما هو عليه حقًا؛ شيخًا للقبيلة.

الصحافة، أجهزة الأمن والوعود بالرخاء الاقتصادي كانت ضمن الوسائل التي استخدمتها “السلطة الفلسطينيّة” لتسويق اتفاق أوسلو واقناعهم بأنّ هذا كلُّ ما كان بالإمكان. تلك الوسائل مثّلت الشقّ الصلب من البروباغندا السلطويّة. أما في شقّها الناعم فعلى رأس القائمة كانت الموسيقى. نشأ جيل كامل في التسعينيّات على وقع أغانٍ ذات نكهة مصريّة في عمومها، أغانٍ تمجّد الرئيس وتدعو له بطول العمر. بقرار من “الأعلى” غطّت تلك الأغاني على إرث الانتفاضة الأولى الموسيقيّ الذي غاب (قُل: غُيِّب) في تلك السنين العجاف.

النتاج-النموذج الذي يمكن من خلال تشريحه فَهم الدوافع الفكريّة، والطبيعة اللحنيّة، وماهيّة الكلمات المستخدمة في ذلك النتاج الموسيقيّ السلطوي هو أسطوانة “غزة-أريحا” الذي تمّ انتاجه عام 1994 وبُثت أغانيه، بلا كلل ولا ملل، على تلفزيون فلسطين آلاف المرّات. التوقيع الذي طبعه محمود عباس في حديقة البيت الأبيض كان يعني، فيما يعنيه، وداعًا مؤقتًا لكل التعبيرات الموسيقيّة الشعبيّة، وترحيبًا إجباريًا بالأغنية-الشخص. الصبايا والشبّان الذين نزلوا “يتحدّوا الدوريّة” في أغنية الفرقة المركزيّة نزلوا، في أغاني التسعينات عمومًا، وأغاني غزة-أريحا خصوصًا، ليلتقطوا صورة على بحر غزّة.

الأغنية التي لاشكّ تذكر كثيرين، وأنا منهم، بتلك الأيام، ولربما دفعتهم للابتسام (الابتسام قهرًا؟) تختم نفسها بمشهد ترسمه ببطء: “صوّر عامل في المصنع، وفلّاح بيحرث يزرع، وشعب بيهتف للقائد، ورايات النصر بيرفع”. ينسحب هذا المشهد على أغلب النتاجات الموسيقيّة للبلدان المحكومة بقبضة حديديّة. المثير للسخرية، في الحالة الفلسطينيّة، أنّ هذا المشهد جرى تقديمه لشعب كان لا يزال يرزح تحت الاحتلال.

القائد الذي يظهر في “صوّر يا مصوراتي” في لمحة واحدة، حين يهتف له الشعب، يخصص له نصيب الأسد في أغانٍ أخرى. إنّه “ضمير الشعب، البسمة والإعصار” في “أهلاً أهلاً يا أبو عمّار” التي كانت تبث مصحوبة بتسجيلات لدخول موكب عرفات من جهة رفح قبل أن تتركّز الصورة على سيارته المرسيدس التي يخرج منها ليحيي الجماهير. إنّه “الريّس” حسبما تريد له الأغنية ومن موّلها وكتبها وبثّها وأن يكون، وعلى طريقة السادات، كان الريّس هو الذي يحمل دومًا، في جيبه على الأغلب، “طلقة حبّ وطلقة نار”.

في “هذا هو القائد” يخرج علينا اللحن مصريًّا بامتياز، لاسيّما في مطلعه، تزاحمه دفقات فجّة لمزمار قلق. مصحوبًا بكورس نسائيّ يلطف الأجواء، يغنّي المؤدي الرئيسي الكلمات التي نقعت مطولاً في سوائل السلطة وزُيّنت بمستحضراتها وأريد لها أنّ تجيب عن أسئلة الديمقراطيّة والاختيار فاختارت “الحب” معينًا تنهل منه. “بالحبّ إحنا اخترناه”. هو القائد “إن كنّا برّا أو جوّا”، قائدًا لمسيرة شعبه وأحلامهم وطموحاتهم وغالٍ تحوطه الجماهير التي قررت “بالحبّ” أن تسير معه درب الحرب و درب السلام. كلّه بالحب.

مسألة الاختيار كانت ملحّة وهاجسًا من هواجس من وقف ذلك النتاج الموسيقيّ. وإن كانت “هذا هو القائد” قد بررت الأمر بالحبّ، فإنّ “أعطيناك العهد يا أبو عمار” تبدو أكثر جديّة، يساعدها في ذلك لحنها المشوب بشيء من البداوة. العلاقة متبادلة وسلسة بين القائد والشعب، “أعطيناك العهد” وأنت، يا ريّس، “وفيت الوعد”. وعلى كلّ الأحوال “نحنا ويّاك سايرين”.

مسألة أخرى كانت حاضرة بقوّة في موسيقى أوسلو، والمبرّرات، لاشك، كانت سياسيّة بامتياز. الوحدة الوطنيّة، سواءً أكانت وحدة الأحزاب الفلسطينيّة واجماعها على المصالح العليا، وحدة النسيج المجتمعي، أو دالّة على التفاف الشعب حول قيادته متمثلة بالسلطة الفلسطينيّة.

في “إحنا الفلسطينيّة” ذات اللحن الأوبرالي الذي يذكر بأوبريت “وطني حبيبي الوطن الأكبر” يجري تقديم السلطة الوطنيّة على أنها نموذج حكم شعبي حنون، يعبّر فيه الجميع عن رأيه بكلّ وداعة. يقول مطلع الأغنية: “إحنا الفلسطينيّة، شعب وسلطة وطنيّة، نتكلّم ونحاور، من أعلى المناور، والرأي النهائي: رأي الأغلبيّة”. يكون مفيدًا أن نورد، في هذا السياق، أنّ أغنية من هذا النوع كان يجري تسويقها في الوقت الذي تكدّس فيه عشرات المنتمين لحركتي حماس والجهاد الاسلامي في سجون السلطة التي كانت تقول لنا: “إخوّة أحبّة ما بينا خلاف، نبدي الرأي، وليش نخاف؟ ناكل زعتر لقمة حاف، بس نتنفّس حريّة: سلطتنا الوطنيّة”.

أغنية واحدة من نتاج تلك الفترة الموسيقي كانت موجهّة، ربما، لفئة معينة (مثقفة؟) من الشعب الذي يحبّ “الريّس”. بكلمات فصيحة وألحان تكاد تكون عسكريّة، كانت أغنية “هي في انتظارك”. القدس التي “هي” في انتظاره، في انتظار الريّس. تخاطب الأغنية الريّس قائلة: “أقبل أبا عمار، شعبك عن يمينك عن يسارك (بالمعنيين الفيزيائي والسياسي) يحميك بالحبّ الكبير ولن يحيد عن اختيارك”.

ربّما يكون استحضار تلك الفترة، موسيقيًا، استحضارًا لما انتهى بشكله الواضح. لكنّ المفهوم، والمبتغى لا زال متواجدًا بقوّة. الموسيقى (الرديئة في أغلب الاحيان) تمسك من ياقة قميصها لتخدم كلّ المشاريع السلطويّة في فلسطين، كما في أيّ مكان آخر. المهندس رحل دون أن يستطيع إكمال “هندسته لأمانينا”. “كبير العيلة” رحل ولم تفلح كلّ المحاولات في تحويله من كبير العائلة إلى “ريّس” إذ لا دولة، لا قدس ولا تحرر وطني، لا شيء غير واقع محتدم، تركة فساد طويلة، وأغانٍ اعتزلت ليحلّ محلها أغانٍ جديدة لن يطول الوقت حتى تنتهي بدورها إلى الأرشيف، هذا إن لم نقل إلى مكان آخر أكثر بؤسًا وأشنع رائحة.


%d مدونون معجبون بهذه: