Posts Tagged ‘عمان’

سنة أولى لندن

أوت 26, 2014

سنة أولى لندن. سنة كاملة. كنت سأقول: فصولٌ أربعة لولا أنّ الفارق بين الفصول، في لندن، ليس جديًا بالمرّة. فالشتاء هنا هو «المعلّم»، والصيف والخريف والربيع صبيانه الذين يرسلهم في مهمّات سريعة حيث يحب، ويعيدهم إلى بيت طاعته متى يحب.

10654173_10202405813094557_632994189_nلم تكن الطائرة التي حملتني من القاهرة مشغولة بكاملها. أتذكر أنّني حظيت بثلاثة مقاعد فارغة لي وحدي ولتوقعاتي وخططي للمدينة الجديدة التي رأيت منها، أوّل ما رأيت، نثارًا ضوئيًا أصفر يشبه أضواء مستوطنة «دوغيت» التي كثيرًا ما تأملتها في سهرات لعب الشدّة على السطح.

التقطت صورًا للمشهد القابع تحت الطائرة. المشهد المتمدد كجثّة. التقطت صورًا كثيرة وما زلت أقلّبها كلّما عَنَّ على بالي أن أنقّب في هاتفي المحمول. أتأملها: بساط أسود كبير، ونقاط ضوئيّة صفراء لا نهائيّة. لم أتجرّأ بعدُ على حذف هذه الصور حتى عندما أكون في أمسّ الحاجة، على هاتفي المحمول، إلى مزيد من «الذاكرة». أحذف صورًا أخرى وأشخاصًا آخرين. فلقد كانت هذه، على الرّغم من كلّ شيء، المرة الأولى التي أركب فيها طائرة في حياتي.

كان صباحي اللندنيّ الأوّل أبيض. أبيض بحقّ. رطبًا ومثبّتًا إلى الأرض ويمكن، لتوقيته، إمساكه باليدين. مشينا، حمزة وأنا، إلى محطّة المترو. قلت له: دعني قليلاً، أريد أن أتأكد أنني لا أمشي في صفحات رواية. إلى هذا الحدّ كنت مأخوذًا، وبماذا؟ بشارع عاديّ في إيست آكتون، واحدة من أبسط مناطق لندن وأقلّها جذبًا للسيّاح.

كانت تلك الجملة بندًا على فاتورة شحّ منسوب الدهشة في حياتي التي دفعتُها، صاغرًا، في أكثر من مناسبة. فأنا، كأجيال بأكملها، كنت أعتبر الذهاب من مخيّم جباليا إلى مدينة غزّة «رحلة» يجب الاستعداد لها والتخطيط وارتداء أفضل الملابس لعلّ واحدة من «بنات غزّة» المتوهجّات كنجم بعيد لا يمكن لمسه تقع في حبّي، أنا إبن المخيّم، من النظرة الأولى. لقد خالط هذا النوع من البؤس القويّ كثيرًا من سنوات العمر. أشعر، عندما أفكّر في ذلك، بالفداحة والتسليم. هذا ما كان، ولن يتغيّر.

ضحك حمزة على جملتي. ولو كان العالم يستمع إليّ في حينها، لكان لزامًا عليه أن يضحك. تمامًا مثلما أضحك أنا اليوم عندما أفكّر في تعامليّ العادي مع الشوارع، وعندما أتذكر ما حملته معي، قبل عام، إلى لندن. كنت أعتقد أنني «نجوت» من القاهرة، وربّما أكون قد نجوت منها فعلاً، لكنني لم أنج منّي، ومن لندن. أفكّر، بعد سنة أولى لندن، أنّ هذه المدينة لو كان لها أن تقول لي شيئًا واحدًا فلابد له أن يكون شيئًا من قبيل: ليس كما كنت تتوقعّ، أليس كذلك؟ ستقول ذلك ونصف ابتسامة صفراء على وجهها.

لقد غيّرت هذه السنة كثيرًا من الأشياء في رأسي. عبثت به مثلما كان يعبث جارنا أبو أحمد بمحرّكات السيارات في ورشته المفتوحة على الدوام، يمدّ يده في جوفها وينحني عليها فيظهر خيط مؤخرته من فوق بنطلون الجينز. يفكّ، ويركّب، ويشحّم، ويقطع، ويوصل، وينادي على الشغّيل لتجهيز الشّاي.

تخلّيت عن أفكار كثيرة، وفتحت الباب لأفكار جديدة. أشرت بيدي لها كي تدخل، ودللتها على طريق الصّالة. رحّبت بها ووضعت ضيافتها كاملة على الطاولة لعلمي أنّها ستمكث كثيرا. خسرت أشخاصًا، وكسبت أشخاصًا آخرين. حدث ذلك فجأة، في غمضة عين كما يقولون. الطبيعيّ أن يتبدّل الناس في حياة المرء، لكن هذا التبدل يحدث، عادةً، بهدوء، وعلى فترات. لكنه حدث معي مُكثفًا، ودون سابق إنذار. وما زلت أحتفظ، وأنا أودّع السنة الأولى في لندن، بكثير من خيبات الأمل، والتحفّظات، والنقمة، والغضب، والاعتذارات، والهواجس، لكنني لا أبدو جديًا في محاولة تصريفها.

أراكمها مثلما كانت تفعل جدّتي مع كلّ شيء. تضعه في صناديق وبراميل وعلب وترميه تحت بيت الدرج: سكّر، زيت، مخللات، دقيق، نحاسيّات، ملابس، وكلّ ما يمكن للمرء أن يتخيّله. «كلّه بيلزم»؛ كانت جدّتي تقول. أقول لنفسي الشيء ذاته كلّما صدف وقمت بزيارة تفقديّة إلى بيت درج حياتي.

وفي السنة الأولى، مرّت علي أيّام وُضعِت فيها كلُّ مُركّبات هويتي في حالة استنفار؛ لغتي، فلسطينيتي، غزّاويتي، لكنني أحسب أنني استطعت عبور الجسر، بشكل أو بآخر. لم أعبره سريعًا، ولم أعبره بمهارة. عبرته وأنا أمسك بجانبيه؛ أتشبّث كي لا أقع. أمشي ببطء؛ خطوة خطوة، في الطريق إلى الجهة الأخرى. الجهة الأكثر نضجًا.

والنضج هذا، كما كان أبي يقول، مرهونٌ بالبهدلة. ولقد ثبت لي قوله أيّما إثبات. كلّما تبهدل المرء، وكلّما شحّت عليه الموارد؛ ماديّة كانت أم عاطفيّة، كلما أُضطر إلى أن ينضج ويبدّل جلده بجلد أقسى، ويتمهّل أكثر قبل إبداء رأيه حول أيّ مسألة، كبيرة كانت أم صغيرة. ومع أنني لم أكن أريد لسنتي الأولى في لندن أن تكون سنة نضج، بل سنة لعب ومشاكسة وراحة، إلّا أنها كانت كذلك.

وفي سنتي الأولى عرفتُ الغربة. هذه المفردة التي كانت غريبةً عليّ حتى بعد ثلاث سنوات قضيتها في القاهرة. ليس ثمّة في القاهرة غربة. القاهرة فيها ازدحام، وفشل، وفوضى، ونهر، وأصحاب، وأغانٍ، وإيقاع حياة سريع. لكن لم يكن فيها، على الأقلّ بالنسبة لي، غربة كالتي سمعت عنها، طفلاً، في أحاديث عائليّة تختصّ بمن سافر من الأخوال والأعمام.

في لندن عرفتُ الغربة. وقد استغرق تعارفنا، وموعدنا الأوّل، بضعة أشهر. لابدّ أننا شربنا، معًا، مئات الفناجين من القهوة. لم نتحدث كثيرًا. قضينا الوقت نتأمّل بعضنا. بدت لي الغربة، أوّل ما بدت، شبحًا. لم أصدّق أنها موجودة. هذه الفكرة الكلاسيكيّة التي أنفر منها مثلما أنفر من الأدب الرديء.

ثمّ كيف أشعر بالغربة؟ لقد تركت المنزل، وأسلوب الحياة الخاص به، منذ سنين طويلة. تركت كلام الناس وضرورة مراعاته، وأسعار السجائر وارتفاعها، وأسلاك الكهرباء وانقطاعها. تركت غابة الاسمنت. تركت الغرف الضيّقة، والفصل بين الجنسين، والحدود المغلقة، وحفظ القرآن الإجباريّ، وطائرة الاستطلاع، والتديّن الزائف، والمتع المخبّأة. تركت كلّ هذا وذهبت بعيدًا عنه، في رأسي، حتى صار مجرّد نقطة في أفق بعيد.

لكنني شعرت بالغربة. هكذا، بكلّ تفاهة. واكتشفت أنّ كلّ ما تركته، لم يتركني. يتعلّق بي مثلما يتعلّق طفل جائع بوالدته. يطاردني ويجعلني أفكّر أنني لا أريد أن أرى العالم بقدر ما أريد أن أريه لأولئك الذين أحب.

لكن الانغماس في القراءة والتعلّم مكنني من تحجيم الإحساس بالغربة. كان هذا أيضًا علامة فارقة في السّنة الأولى. أن أقرأ ما أحب، وأن أدرس ما أحب، وأن أضع قدمي، أخيرًا على مسار أستطيع أن أواجه نفسي وأقول: لقد اخترته أنا، ولم يولد معي. ومع أنني كنت أتمنّى أن لا يكون المسار بالشاكلّة التفصيليّة التي هو عليها، لكنني تيقّنت أن المرء لا يحصل أبدًا على ما يريده بالضّبط – لا في العلم، ولا في العاطفة.

وفي سنتي الأولى مرّ الوقت كرصاصة، وشاهدت الملايين تركب الميترو بخطوة واحدة، وتخرج منه بخطوة واحدة،. رقصت، في سنتي الأولى، ساعات طويلة في نادٍ من ثلاث طوابق، وشاهدت المسيح يصلب في ترافالغار سكوير، ومشيت في شارع عمره أكثر من خمسة قرون، وجلست على طرف آيرلندا لأشاهد اسكتلندا على الطرف الآخر. وفي سنتي الأولى زرت اسطنبول وعمّان، ووقفت لأتأمّل أحيانًا بعض لمحات الجمال الحقيقيّة، والنادرة، التي تقدّمها لندن عندما تقرر أن تتخلى قليلاً، لدقائق، عن طابعها الميكانيكيّ.

وفي سنتي الأولى شعرت أنني لم أفعل شيئًا، ولم أبارح مطرحي. وفي سنتي الأولى شعرت بالبرد، والحبّ، والوحدة، وتحسّنت تحسنًا هائلًا في صنع الشكشوكة. وفي سنتي الأولى صرت عدوًا أفضل لمن يستحقّ عدواتي، وتأكدت من جهلي البنّاء، ومن كرهي للمجوّفين. وشتمت نفسي، والآخرين.

وفي سنتي الأولى، تساءلت مرارًا، وأنا أتأمل نزول المطر –مثلما أتأمله الآن يموّج زجاج نافذتي- عن منبع رغبتي الدائمة بالهرب. كأن رغبتي بالهرب نهر النيل! منذ سنوات طويلة وهي تجري ولا تنضب، ولا تتوقّف، ولا تلين.

الحداثة المعكوسة في الصّورة الفلسطينيّة

ماي 29, 2014

محمود عمر

نُشر هذا المقال في ملحق السّفير العربي.

أدرك الفلسطينيون في وقت مبكر أهميّة «الصورة»، واستشعروا إمكانيّة أن تقف هذه الأخيرة في صفِّهم. كان الفَهم الفلسطينيُّ الأول للصورة، حاله حال الفهم الأوّل للكلمة والبندقيّة، فهماً مادياً بامتياز: الصّورة أداة من أدوات إنتاج الحقيقة. تطوّر هذا الفهم على مدار سنوات الثورة الفلسطينيّة وخضع لعمليّات نقد تراكميّة حرّة حتى صار أقرب إلى ما قالته الناقدة الأميركيّة سوزان سونتاج: ليست الصّورة أداة إنتاج للحقيقة، بل أداة إضفاء طابع حقيقيّ على الأشياء.

«والبحر صورتنا»

شعار وحدة الأفلام الفلسطينيّة

شعار وحدة الأفلام الفلسطينيّة

مثلما أضفى الله على الإنسان طابعاً حقيقياً إذ جعله على صورته، حاول الفلسطينيون مع انطلاق ثورتهم إطفاء طابع حقيقي على كلّ ما أنتجوه ونتج منهم، على كلّ ما فقدوه وسقط منهم: فلسطين، المخيّم، عمّان وبيروت التي ضاع أثناء الخروج منها القسم الأكبر من الأرشيف وانقطع على شاطئها الخطّ الزمني للحكاية الفلسطينيّة. فُقدت في بيروت كميات مهولة من المواد البصريّة والمكتوبة تحت القصف، أو ذهبت بأيادي الكوماندوز إلى إسرائيل التي سرعان ما وضعت كلَّ ما وصل إليها خارج التّاريخ. لكنّ الضياع لم يكن ضياعاً مطلقاً.

استطاع فنّانون فلسطينيون وعرب وأجانب إنقاذ بعض نتاج تلك الحقبة الزمنيّة وطاروا به إلى جهات الأرض الأربع. وعلى الرّغم من أن الاستسلام الفلسطينيّ الرسمي في أوسلو قد وقف حائلاً دون سرعة الاشتغال على ما لم يدمّر أو تسرقه إسرائيل، بما يمكِّن من إعادة تملّك الخط الزمنيّ للصورة الفلسطينيّة، إلّا أنّ بوادر معطوفة على تلك الضرورة قد بدأت تخرج إلى العلن، لا سيّما أنّ أوسلو وما فرضته من رجعيّة فكريّة على العقل الجمعي الفلسطينيّ قد وصلت إلى حالة مطْبقة من الفشل السكونيّ.

«والبحر يسمع…»

عكفت مؤسسة الأفلام الفلسطينيّة منذ مدّة على مهمّة تشتبك بشكل مباشر مع الصّورة الفلسطينيّة. أطلقت المؤسسة مشروعاً يختصّ بالبحث عن الأفلام الناجية من تراجيديا الخروج من بيروت، والحصول عليها بغية حفظها وإعادة ترجمتها وتحويلها إلى صيغة رقميّة لإعادة إكسابها ميّزتها الوجوديّة الأهم: أن تكون أفلاماً قابلة للعرض بشكل جماهيري. ظهرت أولى نتائج هذا المشروع مع إعلان المؤسسة عن انطلاق فعاليّة «العالم معنا» في لندن، التي تستمرّ من 16 أيار/مايو إلى 14 حزيران/يونيو، وهي ستعيد اكتشاف أكثر من ثلاثين فيلما أُنتجت من مواضع ومسافات مختلفة من الثورة الفلسطينيّة في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي.

ستعرض من خلال الفعالية أفلام من إنتاج «وحدة أفلام فلسطين» التي تأسست عام 1970 وقامت على مدار سِنِيِّ عملها بإنتاج أكثر من 15 فيلما بين المتوسّط والقصير. ستشمل الفعالية أيضا أعمالاً لمخرجين عرب وأجانب اشتبكوا فنيا مع الثورة الفلسطينيّة، مثل المخرج العراقي قيس الزبيدي، واللبنانيّة نبيهة لطفي، والايطالي لويجي بيرلي، والفرنسي جان لود غودار الذي أخرج فيلم «هنا وهناك» عام 1974. لا تكمن أهميّة وقيمة هذه الأعمال في كمِّها أو طابعها التوثيقيّ فحسب، بل في كَيفها وسمتها الفنيّة أيضاً. فهي تطرح تساؤلات متعلّقة بالمقاومة الفنيّة والحداثة بمعنييهما العام، كما تتيح فرصة حقيقيّة لتسليط الضوء على جانب مهم ومغبون من الثورة الفلسطينيّة، المتعلّق بأنّها كانت ـ على ما كان فيها من علّات ـ حاضنة أساسيّة للفنّ العربيّ ومحطّة إنتاج وتوزيع رئيسة للصّورة والمعنى.

«واسحب ظلالك من بلاط الحاكم»

وحدة الأفلام الفلسطينيّة

وحدة الأفلام الفلسطينيّة

أوّل ما يستنتجه المشاهد لهذه الأعمال، وما تقدّمه من لمحة عن الظروف الاجتماعيّة التي جعلها ممكنة، هو انّها تتسم بكثير من الحداثة الثوريّة التي نهجس اليوم باحثين عنها. إنّها أفلام خرجت من رحم المشروع الجمعيّ والتجربة التي تَلاقح فيها الشخصيّ مع العام. أفلام تصوّر معاناة الفلسطينيين وشتاتهم لكنّها لا تثبِّت الفلسطينيّ في حيّز الضحيّة. في هذه الأفلام، يظهر الفلسطينيّ باعتباره حالة رفض لإسرائيل وأنظمة القهر العربيّة، ولكنه يظهر أيضا في حالة ضجر خلّاقة من ضحويِّته ومحاولات تقديمها على أنها سرديّته الوحيدة.

في فيلم «الزيارة» (1970) يظهر الشوط التقدميّ الطويل الذي قطعته الفكرة السينمائيّة في منطقتنا واتساع رقعة تفاعلها مع السينما العالميّة. تذكر الطريقة الوحشيّة التي يتمازج فيها المشهد بالموسيقى التصويريّة بالمدرسة التعبيريّة الألمانيّة وبأعمال عمالقة مثل بيرغمان وتاركوفسكي. يحظى المشاهد في فيلم «شهادة أطفال في زمن الحرب» (1972) بإطلالة على الطابع التجريبيّ الذي وَسم كثيرا من النتاج الفنّي الذي قدّمته الثورة الفلسطينيّة بشكل مباشر، أو عملت على تثويره من خلال علاقات الدعم والتوزيع.

في الفيلم، تقوم الفنانة منى السعودي بتوزيع مئات الأوراق البيضاء وعلب الألوان على أطفال مخيم البقعة بعد 1967 مباشرة وتطلب منهم أن يرسموا كلّ ما يخطر على بالهم. يرافقها في المشروع المصوّر هاني جوهريّة الذي استشهد لاحقاً في بيروت. يقوم قيس الزبيدي بدمج الصور التي أخذها هاني جوهريّة، وهي بالأبيض والأسود، مع صور ملوّنة أخذها هو بنفسه لما أنتجه الأطفال من لوحات. يخرج الفيلم في صورته النهائيّة تجريبياً وإبداعياً، يشتبك مع مسألة في غاية الدقّة: أيّها له وقع حقيقيٌ أكثر على وعي المشاهد، الأبيض والأسود أم الألوان؟

«ذهب الذين تحبّهم، ذهبوا»

في وسط مفرّغ من المعرفة كما آلت إليه الحالة الفلسطينيّة، يكون الافتراض المنطقيّ الأسلم بأنّ الصورة الفلسطينيّة، بوضعها موضع التحريك من خلال السينما، قد تطوّرت بنيوياً عن الأعمال التي تعرضها فعالية «العالم لنا». لكنّ إقحام الرّاهن الفلسطينيّ في المعادلة ينسف هذا الافتراض من جذوره. عندما نتحدث اليوم عن الأعمال الفلسطينيّة المرئيّة ونقارنها بما تقدّم عرضه، فإننا نشعر وكأنّ عقارب السّاعة تسير، بشكل ما، إلى الوراء.

تمكّنت الثورة الفلسطينيّة، في وضع تاريخيّ دقيق، من أن تقزّم المسافة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وأن تجعل من كلّ ضحية مؤكدة مقاتلاً محتملاً في مجاله. فرضت الثورة نفسها على القصّة والرواية والصورة، وكانت خير مثال على التبادليّة التي تحكم التفاعل بين الموجود الاقتصاديّ والموجود الفكريّ. كانت الثورة في حدّ ذاتها نظرية اعتنقها الملايين فتحوّلت بذلك إلى قوّة ماديّة مهولة لها القدرة على الانتاج في المخيّم والمدينة والبلد. مع الخروج من بيروت وتوقيع اتفاقيّة أوسلو، انتفت الثورة تماماً، وانتفى كلّ ما كانت تمارسه على النتاج الفنّي المتعلِّق بفلسطين، ودخل المعنى الفلسطيني صحراء التيه.

يمكن للمرء اليوم في معرض حديثه عن الأفلام الفلسطينيّة التي خرجت إلى النور بعد تشكيل السلطة الفلسطينيّة وبدء ضخّ أموال التمويل الأوروبيّة والأميركيّة، أن يتطرّق إلى أعمال جيّدة، وأخرى رديئة، لكنّه قطعاً لن يجد أعمالاً ثوريّة بالمعنى السياسيّ والاجتماعي والثّقافي. عادت عدسات الكاميرات لتصوّر في الفلسطينيين معاناتهم أو تمارس عليهم أنواعاً مختلفة من الاستشراق والتثبيت داخل الإطار.

يعني هذا، على سبيل الاستنتاج، أنّ الحداثة معكوسة تماماً في الصّورة الفلسطينيّة. إنّ الأفلام التي رعتها الثورة وأنتجها مخرجون فلسطينيون وعرب وأجانب بكاميرات 16 ملم وعالجوها بأقلّ الإمكانيّات (معمل الألوان الوحيد كان في بعلبك) في ستينيات وسبعينيّات القرن الماضي كانت أكثر حداثة وتقدميّة وجمالاً بكثير من الأفلام التي تخرج علينا اليوم بصور بالغة الوضوح ويصل مخرجوها أحياناً إلى مهرجانات عالميّة. ليس هذا حكماً عاطفياً بل نقداً يتوخّى الموضوعيّة ويعرف أن عقارب السّاعة لا يمكنها أن تسير بالمقلوب إلى الأبد.


%d مدونون معجبون بهذه: