محمود عمر
في كتابه “الشعب يريد؛ بحث جذري في الإنتفاضة العربيّة” يقدّم جلبير الأشقر؛ الباحث اللبناني وأستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدوليّة في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن (SOAS)، خلاصة ما كان ألقاه من محاضرات حول مشاكل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الأعوام القليلة التي سبقت إندلاع موجة الانتفاضات العربيّة التي واكبها الأشقر، وانكبّ على مجرياتها تحليلاً ودراسة فضمّن الكتاب كشف حساب “مؤقّت” لتجلياتها في البلدن العربيّة الأكثر تأثرًا بها: تونس، مصر، اليمن، ليبيا، البحرين وسوريّا.
يرقى الكتاب الذي صدر بالفرنسيّة ونقله عمر الشّافعي إلى العربيّة، إلى مستوى عنوانه؛ إنّه بحث جذريّ بكل معنى الكلمة في الأسباب والدوافع والمحرّكات الاجتماعيّة التي دفعت في اتجاه خروج ملايين العرب هاتفين بإسقاط أنظمة وطغاة تبدو وكأنها متباينة، إلّا أنّها في حقيقتها متماثلة إلى حدّ بعيد، مجبولة على الفساد والقمع والنهب وتضييق الخناق على الفرد العربيّ و تنغيص عيشه. كما ويقدّم الكتاب-الدراسة في فصوله المتأخرة مقطعًا عرضيًا للانتفاضة العربيّة وأهمّ الفاعلين فيها ومحاولات احتوائها المستمرّة.
في الفصل الأوّل، ونظرًا لما تتيحه الامكانات الاكاديميّة والأرشيفيّة لجامعة لندن، يتمكن جلبير الأشقر من رسم صورة عامّة للتنمية المعاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) مستندًا إلى توليفة واسعة من الدراسات والأبحاث وتقارير المؤسسات الماليّة العالميّة والإقليميّة التي يقارنها بمعطيات مناطق جغرافية أخرى، مثل جنوب أفريقيا وشرق آسيا، ليثبت فشلاً بنيويًا في عمليات التنميّة في منطقة MENA تصحّ معه القاعدة الماركسيّة التي وردت في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي، والتي تمثّل حجز الزاوية الفكريّ لهذا الكتاب برمّته:
“عند مرحلة معيّنة من تطورها، تتدخل قوى المجتمع الانتاجيّ الماديّة في تناقض مع علاقات الانتاج القائمة، وتتحول تلك العلاقات من أشكال تتطور القوى المنتجة من خلالها إلى قيود تعيق تطوّر هذه القوى. وعندئذ، تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعيّة”.
أمّا في الفصل الثاني، فيشمّر الأشقر عن ساعديه ليحوض، متسلحًا بأدواته الماركسيّة، في عمق النمطيات الخاصّة للرأسماليّة في المنطقة العربيّة التي تعجّ بدول ميراثيّة ونيوميراثيّة تبدو ريعيّة في مجملها؛ غير مستندة على الضرائب، وغير آبهة لذلك بما لدى مواطنيها ليقولوه أو يعبّروا عنه، وتطبّق بجهد حثيث وصفات نيوليبراليّة جاهزة للتنمية والحداثة تقلّص دور الدولة المباشر في استغلال الموارد وقيادة عملية التنميّة والتشغيل. النيبوليبراليّة التي بلغت الصفاقة بأحدّ منظّريها، الاقتصادي البيروفي هرناندو دي سوتو، حدّ الإدعاء بأن ما ضحى البوعزيزي بنفسه من أجله هو مبدأ “السوق الحرّة” النيوليبرالي. سوتو قال: جاءت قوى السوق إلى العالم العربي، حتى ولو يكن بدعوة من الحكومات. ويجب على القادة السياسيين أن يدركوا أنّ العرب الفقراء، منذ أن أضرم البوعزيزي النار في نفسه وثار أقرانه مجتجّين، لم يعودوا خارج السوق بل داخله، على مقربة من هؤلاء الحكّام.
وإذ يَخلُص الأشقر في فصل الكتاب الثاني إلى أنّ ما لدينا، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من الرأسماليّة هو أسوأ ما في الرأسماليّة، ينتقل في الفصل اللاحق لمقاربة العوامل السياسيّة الإقليميّة ذات الصلة بالانتفاضة العربيّة. النفط، بطبيعة الحال، هو أوّل تلك العوامل وأهمّها، وإن كان مسمّى الفقرة الخاصة به “لعنة النفط” فإنّ الأشقر يشرح أنّ المصائب التي يختبرها الفضاء الناطق بالعربيّة ليست جرّاء وجود النفط (يفترض بهذا أن يكون أمرًا جيدًا) بل نتيجة لطريقة إدارة هذا الكنز الاستراتيجيّ واستخدامه في المحافظة على دول ريعيّة، ومبادلته بالرضا والدعم الأمريكي (والأسلحة الأمريكيّة والبريطانيّة والفرنسيّة) وحرمان الفضاء الناطق بالعربيّة من أي مردود حقيقي، ناهيك عن عدم استخدامه في أيّ صناعة تحويليّة معدّة للتصدير.
وفقًا لتقديرات معهد التمويل الدولي، ومقره واشنطن، بلغت تدفقات الرسمايل الخارجة من دول مجلس التعاون الخليجي 530 مليار دولار خلال السنوات الخمس 2002-2006 ومن بين هذا الاجماليّ، ذهب مبلغ 300 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، و100 مليار إلى أوروبا.
ينحى الكتاب، بعد ذلك، منحى أكثر انشغالاً بالسياسة منه في الاقتصاد، إذ يقارب مسألة “الاستثناء الاستبدادي العربي” الذي تجمع عليه الولايات المتحدة وأوروبا من حيث مطالبتهما دولاً حول العالم بمزيد من الديمقراطيّة، وصمتهما المطبق حول عقوبة الجلد ومنع النساء من القيادة في البلد-المصيبة السعوديّة بحجّة “إحترام ثقافة أهل ذلك البلد”. أمّا الإخوان المسلمون وعلاقتهم براعيتهم الأولى، السعوديّة، ومن تحولهم إلى قطر وأميرها المهووس بالسياسة الخارجيّة، فلهم نصيب لا بأس به من الاشارة والتحليل، لاسيّما وأنّ الأشقر يقتبس “اليبان الشيوعيّ” ليوصّف الإخوان المسلمين توصيفًا ماركسيًا دقيقًا:
الطبقات الوسطى (ليست الطبقة الوسطى=البرجوازيّة) كلها تحارب البرجوازيّة للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى من التلاشي. فهي إذًا ليست ثوريّة ولكن مُحافظة بل وأكثر من ذلك، إنها رجعيّة تسعى إلى جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى.
هؤلاء الذين يسعون إلى “جعل عجلة التاريخ ترجع القهقرى” هم الإخوان المسلمون الذين وعدوا النّاس بفردوس إسلاميّ مفقود، واتخذوا شعارًا أجوفًا هو “الإسلام هو الحل”، وهم -حسب ما يقدّمه الأشقر من إشارات لدراسات وأداء الإسلاميين في الحكم- نيوليبراليين يسعون إلى التخلصّ من “برجوازيّة الدولة” والدخول في برجوازيّة السّوق (زيارة مرسي إلى الصين مثالاً). وإذ يتنبأ لهم الأشقر (مثلما فعل السابقون) بنهايات تعيسة بعد خروجهم من قمقم المظلوميّة إلى نور السلطة السّاطع، فهو يفرق تمام التفريق بينهم وبين “حزب العدالة والتنمية” التركي، بل حتّى بينهم وبين الخميني. أمّا القوى الفاعلة في الثورة، والذين يتطرق لهم الأشقر ويعوّل عليهم فهم: الحركات العماليّة، حركات النضال الاجتماعيّ، والفاعلون الجديد: شباب الإنترنت.
هل قلت مؤامرة؟
يطرق الأشقر في هذا الكتاب أبواب مفارقات سياسيّة، ونقاط تحوّل ضجّ بها “الربيع العربيّ” وانقسم عليها المنقسمون؛ تدخّل الناتو في ليبيا، تسلّح الثورة في سوريّا، وذلك في معرض تقديم “كشف حساب” لانتفاضتي البلدين. مفردة “المؤامرة” التي طفت إلى السطح (كانت قريبة منه على الدوام) بعيد الحظر الجوّي فوق ليبيا ودخول الانتفاضة السوريّة معترك التسليح هي مفردة يشيع استخدامها، حسب الأشقر، عند فئتين من الناس: مناهضو الإمبرياليّة وأهل الشرق الأوسط. وإن كان الأشقر لا ينفي (ومن يستطيع أن ينفي؟) وجود مؤامرات دائمة في هذا الجزء من العالم، إلا أنّه لا يتحرّج من التنظير داعمًا للانتفاضة الليبيّة، شارحًا أسباب ودوافع الناتو للتدخل فيها ومخرجات ذلك على الصعيد الاجتماعيّ الليبي، ومؤيدًا للثورة السوريّة التي يؤكّد أنّ تسلّحها أمر لم يكن بديهيًا فحسب، بل ومطلوبًا؛ نظرًا لطبيعة الجيش السوريّ واستناده على شريحة شعبيّة من طائفة واحدة. يقول الأشقر:
التحليل الصحيح لطبيعة النظام السوري، ولاسيّما طبيعة قواته المسلحة، كان من شأنه أن يفضي بالضرورة إلى استنتاج مفاده أنّ النظام السوري يستحيل إسقاطه بغير حرب أهليّة.
ولمناهضي الإمبرياليّة الذين تحرّجوا من الاصطفاف بجانب الانتفاضة السوريّة (فنّد الأشقر في موضع آخر في الكتاب هذه الحجّة المتعلقة بالامبرياليّة) لم يستخدم الأشقر مبررات ومعطيات جيوسياسيّة واقتصاديّة فحسب، بل وأخلاقيّة أيضًا إذ أورد ما قاله الثوري الفرنسي غراكوس بابوف في 1795:
تصرخون قائلين إنّه يجب تجنب الحرب الأهليّة؟ وأيّ حرب أهليّة أكثر إثارة للاشمئزاز من تلك التي يكون القتلة فيها في كلّ جانب، والضحايا العزّل في جانب آخر؟ هل بوسعكم تجريد من يريد تسليح الضحايا من القتلة؟ أوليس من الأفضل أن تقع حرب أهليّة يكون بوسع كلا الطرفين فيها الدفاع عن النفس؟
في خاتمة الكتاب، يوصل الكاتب أفكاره النهائيّة بإيضاح سابق حول أنّ الإشكاليّة بين الإسلام والديمقراطيّة إشكاليّة وهميّة، ويؤكّد أن السلطة اليوم “في الشّارع” في الفضاء الناطق بالعربيّة. الصّراع ضد النيبوليبراليّة، ورأسماليّة المحاسيب، والفساد الإدراري، وقمع الحريّات، صراع طويل والحقبة الثوريّة العربيّة لا تزال في بدايتها. يختم الأشقر بحثه الجذريّ عن الانتفاضة العربيّة المستمرّة بالقول: المستقبل يدوم طويلاً، كتب الجنرال ديغول في مذكراته خلال الحرب. إنّه لتعبير جميل عن الأمل!