Posts Tagged ‘هيغل’

هاروكي موراكامي – اكتب كأنّك تعزف.

مارس 9, 2013

محمود عمر

في عام 1964 كان عازف الطبل الأميركي آرت بلاكي يحيي حفلة موسيقية مع فرقته “رُسل الجاز” في مدينة كوبه عاصمة محافظة هيوغو في اليابان. فتى في الخامسة عشرة من عمره كان يجلس بين الحضور مأخوذا بموسيقى الجاز التي يسمعها للمرّة الأولى في حياته، ذلك الفتى يدعي هاروكي موراكامي. الفتى الياباني الذي كبر ليصبح واحدا من ألمع الروائيين في العالم كان قد تلقى تذكرة الحفلة كهدية في عيد ميلاده, لم يدرك موراكامي في حينها أن تلك التذكرة ستغير حياته وحياة الكثيرين من قرائه إلى الأبد.

HMكانت الموسيقى صاحبة البطولة الأولى في حياة موراكامي، فرغم اعجابه بكافكا وديستوفيسكي وبلزاك وقراءاته المتنوعة في سنين شبابه المبكرة، لم يشعر بأنه يملك الموهبة اللازمة للكتابة الروائية؛ سيما وأن لوثة المقارنة مع الكبار كانت لا تزال تسيطر عليه. تخرج من الجامعة وبحث عن الاحتراف في مجال آخر فافتتح بعد جهد مضن في جمع المال، حانةً صغيرة للجاز في طوكيو. كانت الحانة مسرحًا لعازفين هواة وإذاعة صغيرة لبثّ تسجيلات الجاز التي لم ينقطع صداها طوال سبع سنين هي عمر المكان الذي عشقه موراكامي لأنّه مكنه من سماع الموسيقى طوال الوقت.

ليس ممكنًا إذًا في معرض الحديث عن موركامي الفصل بينه وبين الموسيقى، والكتابة. كوّن الثلاثة معًا ثلاثيّة واحدة، تمامًا كثلاثيّة هيغل الفلسفيّة، وثلاثيّة الأرشيدوق الموسيقيّة، والثلاثيّة الأوديبيّة – ثلاثيّات نجدها في رائعته “كافكا على الشاطئ”. لم يدخر موراكامي جهدًا في التأكيد على ذلك, يقول في محاضرة ألقاها عام 2005: “الموسيقى! إنّها تعني لي الكثير, لقد تعلمت كل الأشياء عن الكتابة من خلالها”. لم يكن ذلك غزلاً مجوّفًا بل توصيفًا دقيقًا لما حدث، فعندما قرر موركامي كتابة روايته الأولى لم يكن يعرف شيئًا عن تقنيات السرد الروائي. الحل الذي توصّل إليه كان موسيقيًا صرفًا: اكتب كأنّك تعزف.

توالى بعد ذلك نتاجه الأدبي، وكانت الموسيقى حاضرةً لا في تفاصيل الأعمال الروائيّة فحسب، بل حتّى وفي العناوين. “كافكا على الشاطئ” هو عنوان لأغنية تؤلفها وتلحنها على البيانو الآنسة ساييكي لحبيبها البعيد. “غرب الحدود شرق الشمس” مقتبسة في جزء منها من عنوان اغنية لنات كينج كول. “الغابة النرويجيّة” عنوان أغنية للبيتلز، “أرقص أرقص أرقص” عنوان أغنية للبيتش بويز.

داخل العوالم التي يخلقها موركامي في أعماله يمكن للقارئ أن يحظى بحصّة تعليميّة قيّمة عن الموسيقى، ولكن بعيدًا عن الخشبيّة. يمارس موراكامي نزعته التعليمية تلك عبر جعل شخصيّات رواياته، الرئيسي منها والهامشي، شغوفة بالموسيقى. “هاجيمي” الشخصيّة الرئيسيّة في “جنوب الحدود غرب الشمس” يترك عمله كمحرر في دار نشر ليفتتح -على طريقة موراكامي نفسه- حانة صغيرة لموسيقى الجاز في أوياما. في الحوار الذي يدور بين هوشينو، الشاب الياباني المتأثر بالثقافة الأمريكيّة والذي يربط شعره على هيئة ذيل الحصان ولا يولي الموسيقى -بكل أنواعها- أيّ اهتمام جدّي، وبين صاحب مقهى في رواية “كافكا على الشاطئ”, يسأل صاحب المقهى هوشينو “ألا تزعجك الموسيقى؟” فيرد هوشينو “لا، إنها رائعة. من الذي يعزف؟”. يجيب صاحب المقهى: “ثلاثي روبينشتاين وهيفيتز وفيورمان، ثلاثي المليون دولار، عرفوا بهذا الاسم. الفنانون الكاملون، هذا تسجيل لهم من عام 1941.”

ينقطع الحوار ثم يعود ليتصل:

– ذكرني ما اسم هذه الموسيقى؟
– ثلاثية الأرشيدوق لبيتهوفن.
-مارشي دوق؟
– أرشي. أرشيدوق. أهداها بيتهوفن للأرشيدوق رودولف النمساوي. هذا ليس اسمها الرسمي، إنه بالأحرى الاسم الشائع. كان رودولف ابن الامبراطور ليوبولد الثاني. وكان موسيقيًا ماهرًا جدًا، درس البيانو ونظرية الموسيقى على يد بيتهوفن وبدأ عندما كان في السادسة عشرة. واتخذ بيتهوفن مثالاً أعلى. ولم يكوّن شهرة لنفسه سواء كعازف بيانو أم كمؤلف موسيقي، لكنه كان يقف في الكواليس يمد يد المساعدة لبيتهوفن الذي لم يعرف كثيرًا كيف يشق طريقه في العالم.

في حوار آخر بين أوشيما، وكافكا, يسأل كافكا: لماذا تستهويك سوناتات شوبرت؟

-سوناتات شوبرت، وخصوصا هذه، اذا عزفها العازف بطريقة حرفية، فهذا ليس فنًا. وذلك لانها طويلة جدًا ورعوية جدًا، ومن الناحية التقنية بسيطة جدًا، فاذا سمعتها كما هي خلال القيادة، ستشعر أن الطريق سطحيّة وبلا طعم، كقطعة أثرية بالية، ولهذا فكلما حاول أحدهم عزفها أضاف لها شيئًا من ذاته، مثل هذا العازف- اسمع كيف يعزفها مضيفًا “الروباتو” ومعدلاً الايقاع متنقلاً بين درجاتها وما إلى ذلك. وإلا لما خرجت المقطوعة بصورة متماسكة. يضيف: ولهذا أحب سماع شوبرت خلال القيادة، كما قلت لك، لأن كل أداء لها قاصر، نقيصة فنية قاتمة تستفز وعيد، وتبقيك متنبهًا.

في نفس السياق, يقول فرانك جالاتي، محرر الطبعة الانجليزيّة من مجموعة قصص موراكامي القصيرة “ما بعد الزلزال” في إحدى مقابلاته: عدد كبير من شخصيّات موراكامي تجيد العزف على البيانو، أو شغوفة بالموسيقى, أو ملمّة جيدًا بتاريخها. يمكن اعتبار الشخصيات مراجعًا في الموسيقية الكلاسيكيّة, أو حتى في موسيقى البوب والجاز والبلوز.

موراكامي الذي كتب روايته الأولى في عامه التاسع والعشرين لم يتأثر بالموسيقى فحسب، بل وأثّر فيها. أحد أهم الامثلة على الأعمال الموسيقيّة التي انبثقت من عالم الروائي عاشق القطط والـ “ووكمان” ألبوم “The Wind-up Bird Chronicle” (عنوان كتاب لموراكامي) الذي أصدره الموسيقي الإيطالي ماسيمو فيورينتينو صاحب مشروع Aeroplain. أُرفق الألبوم في كتاب عن الروائي تحت عنوان “A Wild Haruki Chase.”

يقول موراكامي: سواء كان الأمر في الموسيقى، أم في الأدب، أهم شيء هو الايقاع. إنّ الأسلوب يجب أن يحظى دومًا بإيقاع ثابت وطبيعي، وإلا فلن يقرأك النّاس. هكذا علّمتني الموسيقى.

بالخلاص يا شباب، بالخلاص يا سوريا!

نوفمبر 11, 2012

محمود عمر.

إذا كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر قد تحدث، في معرض التناول التشريحي للعلمنة، باعتبارها نشاطًا اجتماعيًا معرفيًا، عن “نزع السّحر عن العالم”، فإنّ ياسين الحاج صالح، الكاتب والناشط السّوري، يتحدث في كتابه “بالخلاص يا شباب!” بالدرجة الأولى عن “نزع السّحر عن السجن” وما يتصل به من أساطير وخيالات تحيل على مفاهيم كالبطولة والثبات حيث “لا مجال للتراجع والاستسلام”، و “ليس بعد الليل الا فجر مجد يتسامى” وبدأ تناول السّجن باعتباره موضوع ثقافي، أي “أنسنته” وفق التعبير المحبب لقلب نصر حامد أبو زيد. على الصّعيد الشخصي، لا يخفي الحاج صالح رغبته في تقيؤ التجربة (والوصف لألبير كامو) عبر “التخلّص” من هذا الكتاب بنشره بعد تجميع مواده منذ العام 2003 وصولاً إلى عام 2011، العام الذي يمكن استعاره عنوان كتاب سلافوي جيجيك الجديد لوصفه بـ”عام الأحلام الخطرة”.

يسرد الحاج صالح في مستهلّ الكتاب حقائقًا تشكّل مقياس الرسم الذي يرشد القارئ عبر تلك الدفقات الضوئيّة التي تنير جنبات السجون السوريّة، والمسجون السوري. اعتقل فجر 7/12/1980، كان في العشرين من عمره، طالبًا في السنة الثالثة في جامعة حلب، وعضوًا في الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، عذّب ليوم واحد في “الفرع” على “الدولاب” و “بساط الريح”، وهي أسماء متداولة لتقنيّات تعذيب بعثيّة، وأحيل إلى سجن المسلمية في حلب قبل أن يتنقّل بين سجن عدرا والسّجن المطلق؛ سجن تدمر. أفرج عنه يوم السّبت 19/121996. بالمحصّلة: 16 عامًا و14 يومًا انتزعت منه، بُترت ولا مجال لاستردادها، وما ذلك إلا عيّنة ضاربة في الدقّة من مجمل ما سُرق من السوريين، بأيادٍ سوريّة.

يلتبس السجن، وتموّه الحريّة، في سوريّا التي يخنقها البعث. لا يتاح للسجين السياسي، بعد الإفراج عنه، فسحة تمكّنه من هضم التجربة، والتصالح مع الذّات. يخرج إلى مجتمع الخطاب الرسمي السّائد فيه يتحدث عن الرغبة في التقدّم، والاستمرار، والتجاوز، حيث لا وقت للتوقّف عند إشكالات صغيرة، كآلاف السجناء السياسيين، والبلد بنظامها وشعبها “مستهدفة”. يشعر “المفرج عنه” بأنّه ممنوع من التذكّر، لكنه أيضًا -في حبكة فاشيّة- ممنوع من النّسيان. عليك أن تظل تتذكّر أنك تحت المراقبة، في دائرة الضّوء، لكن عليك أن تنسى عذاباتك، وتفقد القدرة على طلب المساءلة التي إن حدث وطلبتها فأنت تعبث بنسيج المجتمع، ويفيض من قفصك الصدري حقدٌ لن يفيد الوطن، ولا المواطنين، مع أنّ السجن، بما يفرضه من قرب إجباري، وإستثارة لحساسيّات مجهريّة في الكائن البشري نتيجة وجوده الدّائم في مرمى عين “الآخر”، كان قد أصبح نمط حياة لكثيرين في سوريا.

يناقش الحاج صالح الجدليّات التي تربط السّجن، والضّيق، بالذاكرة، الوقت، الخصوصيّة، المرأة (التي عرّف مصطفى خليفة السّجن بأسره على أنّه غيابها)، الحنين والتّسمية. تنتهي ردّة الفعل الأوليّة بالصّمود المجوّف، ويصير لزامًا على السّجين أن يعترفه بنفسه سجينًا، أن يفتح صفحاته و”يسمح للسّجن بتأليفه”. عقارب السّاعة هي الأخرى تحتاج توليفة من نوع ما كي تصير مأمونة الجانب.  يقتل البعض الوقت، ويكسبه الوقت الآخر، ويكون للكتب، التي سيسمح بإدخالها بعد فترة، أثر ضخم في تدعيم الوجود الانساني للسجناء عمومًا، اليساريين منهم خصوصًا. قرأ ياسين الحاج صالح أثناء وجوده في السّجن كتاب محمد عبد الجابري عن فلسفة العلوم، والاستشراق لادوارد سعيد، النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الاسلاميّة لحسين مروة، ومجموعة من كتب هيغل وبعض كتب عبدالله العروي. الكتب، مضافة إلى التمطّي الفكري الذي يفرضه “نمط الحياة/السّجن”، دفع بياسين الحاج صالح، كما سبق ودفع بغيره كثيرين، إلى “التحرر” من كثير من القناعات التي دخلوا بها العنابر والزنازين.

قراءة الكتاب، بعيدًا عن ربطه بالبلد، وبالكاتب، وبحقيقة نشره بعيد إندلاع الثورة السورية، والنظر إليه من زاوية أوسع، يفتح الباب لعدّة استنتاجات وتأملات، وخصوصًا في عمليتي البناء والهدم اللتان تلخصان مسيرة الانسان الفكريّة. ربما يجوز القول بأن السجن يكثّف عمليات الأيض الفكريّة -إن جاز التعبير- ويضمن، إلا في حالات نادرة، أن من يدخل إلى السجن، لن يخرج منه بنفس العقليّة. إنّه -أي السجن- حالة “نقد ذاتي” إجباريّة، وطويلة، وجذريّة، وهو ليس موئلاً للمثقفين، بقدر ما هو صانع قاسٍ لهم. يقول ياسين الحاج صالح في معرض حديثه عن هذه النقطة تحديدًا: إنّ التحرر الحقيقي من السجن هو أن يتسنّى لنا أن تجعل منه مجالاً للتحرر من سجون أخرى أشدّ فتكًا، من عبوديّات وقيود ومطلقات أسوأ من السّجن ألف مرة. ويضيف في موضع آخر من الكتاب: صرت على نفور عميق من كلّ مذهبيّة مغلقة ومن كل منزع يقينيّ ودوغمائي، ومن انتهازيّة أصحاب العقائد ولا أخلاقيتهم العميقة. الحديث السّابق يبدو اليوم، وكلّ اليوم، ملحًّا لنا كعرب ننتمي إلى “شرق المتوسّط”، أحد أكثر المناطق إبداعًا في قتل الإبداع، واحتراف الإقصاء، والمساومة بين التفاصيل الصغيرة، وبين الشّعار.

آن أوان الخوض في اللايقيني، كما يقول كارل بوبر. آن لمجتمعاتنا العربيّة أن تُفتح، وأن تبحث في أمر مآسيها، وضحاياها. أن تغفر، وتحاسب. أن نجلس جميعًا على طاولة مستديرة لنصل إلى ما يجب فعله إزاء ما سبق، وإزاء القادم. سوريّا اليوم، بشعبها الثّائر، أقرب إلى ذلك التحدّي من أي شعب عربيّ آخر. إذا كانت الحريّة تعني لياسين الحاج صالح المرأة والحب، فمعناها بالنسبة لسوريّا-المجتمع، سوريّا الأفراد، هو ما تتم الاجابة عنه اليوم. ينقل السّجين القابع في سجن تدمر، السجن المطلق، إلى سجن عدرا، أو صيدنايا، أو المسلميّة، حيث يختبر مجددًا التخالط مع أقرانه استعدادًا للخروج إلى المجال العام. سوريّا البلد، سوريّا الشّعب، خرجت بلاشكّ من تدمرها، أمّا وجهتها القادمة فتحدٍّ قائم، وجرح رطب، وثورة مستمرّة.

الضّحك باعتباره حالة مقاومة: المصريّون نموذجًا.

جوان 6, 2012

|محمود عمر|

«واجب من يريد الخير للبشريّة أن يجعلها تضحك من الحقيقة، وأن يجعل الحقيقة تضحك فيتحرّر الانسان»

(أمبرتو إيكو، “اسم الوردة”)

أنتِ جادة جدًا، لا يمكنني تخيّل شخص يتبنّى قضيّة يؤمن بعدالتها، ويمشي بين الناس بوجه تحتلُّ الكآبة قسماته؛ ليس هذا الانطباع الذي يجدر بك إعطاؤه للآخرين. لقد كنتُ هكذا، مثلكِ، أصرخ كثيرًا وأقضي وقتي إما في التعبير عن الغضب والجديّة، أو في تهيئة نفسي للقيام بذلك. أنظري إلى مصر، ما الذي حصل هنا؟ كان المصريّون يعيشون في عالمهم المغلق والمحكوم بالزحمة ورداءة الوقت، في الحافلات الضيّقة، في العمارات التي تمتاز بفارق شاسع بين خارجها وداخلها، في العشوائيّات وفي الريف.. وفجأةً خلعوا مبارك بطريقة مذهلة. طرأ شيء ما، في الهواء أو في الماء أو في تركيبة الفرد الذهنيّة فأدّى لهذا الفيضان البشريّ الهادف. يمكنني أن ألخّص ما حدث بكلمات قليلة: لقد ابتسم المصريّون بعد أن كانوا يضحكون في جلسات خاصّة وبصوت منخفض، ضحكوا معًا، علنًا، وبصوت عالٍ!

خوذة ضاحكة

لم أكن أعتقد أنّ الكلام الذي كنت أقوله لتلك الصديقة الأميركيّة-الفلسطينيّة في قهوة البورصة -أحد مقاهي وسط البلد بالقاهرة- هامّ إلى درجة أنني سأعيد تذكره لأبدأ به هذا المقال عن الضّحك. كنت، في الحقيقة، أحاول أن أهدّئ من روعها أو أن أمتصّ غضبها (من الرّاهن الفلسطيني) لأستطيع الاستمتاع بهدوء بفنجان الشاي الذي ينتصب أمامي على الطاولة. تبيّن بعد تسلسل أحداث وقراءات تلت حديثي ذاك أنني كنت، فعلاً، أقول شيئًا هامًا له منابعه في الفلسفة والسّياسة والتاريخ. أفكار قيّمة قد تخرج من رأسك وأنت تحاول تهدئة صديقة لك من أجل أن تستمع بفنجان شاي؛ أليس ذلك، في حدّ ذاته، مضحكًا؟

يعرَّف الضحك في المعاجم الانجليزيّة على أنه “إحداث ضجّة باستخدام الصّوت للدّلالة على الاعتقاد بأنّ حدثًا ما مَدعاة للفرح”، أو أنّه “التعبير عن مشاعر معيّنة، غالبًا ما تكون متعلّقة بالرّضا والسّرور، على شكل سلسلة من الأصوات العفويّة المرتبطة غالبًا بحركة في الأطراف والوجه”، بينما يُعرّفه “لسان العرب” بأنّه “ظهور الثنايا من الفرح”. والضّحك عند العرب على مراتب: التبسّم ثمّ الافترار والانكلال ثمّ الكتكتة ثمّ القهقهة والقرقرة والكركرة، ثمّ الاستغراب ثم الطخطخة ثم الإهزاق، وهي أن يذهب الضحك بصاحبه كلّ مذهب.

في مجال البحث عن علّة الضحك تبرز مدارس عدّة؛ في القديم منها جنح الفلاسفة لتفسير الضّحك على أنّه سخرية من الطبقات الدنيا، أو كحالة حوار مستتر مع الذات. أمّا في المتقدم فتعدّدت الآراء؛ هيغل يرى أنّ الضحك “ينشأ نتيجة لوجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يقدّمه هذا المفهوم”، ويؤكّد كيركجارد، بطريقة أو بأخرى، على ذلك فيقول: “حيث توجد حياة يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض، يكون المضحك موجودًا”، بينما يعبّر شوبنهاور عن ذلك “التناقض” بمفردات أخرى على شاكلة “العبور/ الوصول” فيقول: “الضّحك شبيه بقياس منطقيّ تكون القضية الكبرى فيه مؤكدة، ويتم الوصول إلى القضية الصغرى فيه، إلى حدّ ما، من خلال الحيلة أو المغالطة، وتكون نتيجة هذا التركيب بين القضيتين هي الضحك”، وهو الأمر الذي نجده مطبقًا في تصرّفات سقراط الذي كان يتجوّل في الأسواق ويطرح أسئلةً تبدو تافهة، كي يصل من خلال ما يتلوها إلى “اليقين السّرمديّ”.

فرويد فسّر الضحك، كما فعل مع الأحلام، ضمن تأثير القوى الليبيديّة. يقول عن الضحك بمنطق يقترب من الأبيقوريّة بأنّ الضّحك “ينشأ من رغبة مكبوتة في اللاوعي يتحوّل بموجبها آلية دفاعيّة لمواجهة العالم الخارجي المهدّد للذات ويجعل من طاقة الضيق شعورًا بالمتعة التي هي ذات طبيعيّة”. الناس تضحك لتدافع، لتسخر، لتتحمّل، لتستطيع المواصلة. بكلمة أخرى: لتقاوم. هذا هو ما لم يفهمه مالدورور -الشخصيّة التي خلقها لوتريامون في أناشيده- عندما وجد أنّ الناس يضحكون، فأمسك سكينًا وقطع زاويتي شفتيه.

ولأنّ الضحك حالة مقاومة إبداعيّة تسعى بالضرورة للاشتباك مع السلطة فلقد حورب قديمًا وحديثًا. أفلاطون في معرض حديثه عن جمهوريّته الفاضلة كان يحذّر من الضّحك وينفّر منه لما له من “قوّة هائلة على تحويل خطوط الدفاع القويّة للسلطة إلى مجرد أبنية هشّة”. جاء الغزالي بعد قرون عديدة ليسهم في بناء السدود أمام الضحك بقوّة فاقت أفلاطون فحرّم، من دون أيّ سند دينيّ حقيقيّ، الضحك يوم العيد و”جعل عقابه هولاً من أهوال يوم القيامة”، ولم يكتفِ بالمضمار اللاهوتي بل تعدّاه إلى اللغوي فشرح أنّ المزاح سمّي كذلك لأنه “أزاح صاحبه عن الحق”.

الرجالة الي ورا -وقدام- عمر سليمان

الرجالة الي ورا -وقدام- عمر سليمان

في مصر، البلد الذي ما أن يذكر “البحر” فيها حتى يبرز سؤال: “بيضحك ليه؟”، كان المزاح (الألش باللهجة المصريّة) سلاح الشعب السرّي. على مدار عقود من الفساد والإهانة والعيش في اغتراب داخل الوطن صبّ المصريون جام غضبهم على الواقع، والسّلطة، نكاتًا و”إفّيهات” تبادلوها في المواصلات وجلسات السّهر وقاعات المحاضرات. لم تختلف نزعة المصريين “الضاحكة” عمّا لجأ إليه المضطهدون على مدار التاريخ؛ اليهود –كنموذج تاريخي لذلك- عرف عنهم الاستعانة بالنكات لتخفيف ثقل الواقع الأوروبي عليهم حتّى شاع عن اليهودي بأنه “يضحك كي لا يبكي”.

خرج ذلك السّلاح، سلاح الضحك، إلى العلن في ثورة الخامس والعشرين من يناير. لقد كان ميدان التحرير، وميادين السويس والإسكندريّة وباقي المدن المصريّة، مساحات لعرض مسلّح بالضحك. تجلّى ذلك في الشعارات “يا سوزان صحّي البيه، كيلو العدس بعشرة جنيه”، وفي اللافتات التي رفعت في الميدان: هتمشي هتمشي؛ بس انجز عاوز أروح أحلق؛ إرحل؛ الوليّة عاوزة تولد والولد مش عاوز يشوفك، إرحل؛ مراتي وحشتني- ده لو كان عفريت كان طلع!- إرحل يا تِنح، والعشرات من الشعارات والتعبيرات والفعاليات (“الراجل الي واقف ورا عمر سليمان” مثالاً) والرّسومات الأخرى التي دارت الغالبيّة العظمى منها في فلك السخرية من السلطة بشخوصها وفكرتها واستدعاء الضحك كثابت في المشهد الثوري لبلد بأسره.

اليوم، وبعد مرور أكثر من عام على هبّة المصريين، لا يزال الضّحك سلاحًا مُشهَرًا في وجه أعداء الثورة؛ الفلول والمجلس العسكري ومن لفّ لفهم من قوى “الثورة المُضادّة”. بلوفر شفيق (السّخرية من ملابس أحمد شفيق آخر رؤساء وزراء مبارك)، الفيديوهات المركبة لجلسات مجلس الشعب المصري، النكات السّاخرة التي تتلو أيّ تصريح مُسيء للثورة من شخصيّة سياسيّة مهما علا شأنها؛ كل تلك أمثلة واضحة على ذلك.

في أحد المرّات التي تواجدتُ فيها في ميدان التحرير العامر بأهله، أتأمّل، بكل معنى الكلمة، وجوه النّاس وابتساماتهم، لم أستطع إلا أن أفكر بأن المصريين لم يقوموا بواحدة من أكثر الانتفاضات سحرًا وعبقريّة فحسب، بل وفعلوا ذلك، في تجربة فريدة من نوعها عبر التاريخ، فعلوا ذلك.. ضاحكين.


%d مدونون معجبون بهذه: