Posts Tagged ‘ياقوت الحموي’

غزّة باعتبارها مدينة بائسة، والغزّيون باعتبارهم أصحابي.

أكتوبر 13, 2012

في موسوعته «معجم البلدان»، يقول ياقوت الحموي عن معنى الاسم: «غزّ فلان بفن واغتزّ به إذا اختصّه من بين أصحابه.» ورجّح آخرون منهم مصطفى الدبّاغ أنها بمعنى: قوى ومخازن وكنوز و«ما يُدّخر». المدينة التي سمّاها المصريّون «غازاتو» وشعر الآشوريون بشيء ما حميمي تجاها فنادوها «عزاتي» مدينة شرسة منذ القدم. في العام 332 قبل الميلاد هاجمها الاسكندر المقدوني فاستعصت عليه، وآثر قائدها “باش” القتال على تسليم المدينة. اشتدّ الحصار وقاوم الغزيّون ببسالة حتى وصل بهم الأمر أن جرحوا الاسكندر المقدونيّ باحدى حرباتهم فجنّ جنونه وانسحب مضمرًا عزمه على اقتحام المدينة في جولة ثانية راح يستعدّ وجيشه لها أيّما استعداد. بعد عودته هاجمها أربع مرّات حتى دخل، وأعمل فيها السيف وذبح فيها خلقًا كثيرًا، لكنّه أمر باعادة اعمارها وجعل بعض اليونانيين يقيمون فيها، هكذا إلى أن مات واقتتل عليها الورثة من بعده، وكانت الغلبة للجانب المصريّ الذي يقوده “بطليموس” حتى اذا ما كبر “انتيغونوس” واشتدّ عوده حتى عاد فأخرج بطليموس منها وآلت سيادتها وكل مدن الساحل له ولمن معه. هذه اللمحة من تاريخ المدينة تتكرر بايقاع ثابت، فقبل اليونانيين كانت سيوف الفراعنة والهيكسوس والآشوريين والبابليين والفرس، وبعدهم الرومان والعرب المسلمون والصليبيون والمماليك والعثمانيون والانجليز الذين رحلوا وما رحلوا. يمكن أن نقول، بكلمات مختصرة ومعبّرة : تاريخ غزّة معركة دائمة يتخللها بعض الهدوء.

اليوم، في عصر السوق التجاري والفيزون والآيفون وعشرات آلاف القتلى الذين يتكدّسون في شريط أخبار لا يزيد عرضه عن بضعة سنتميترات مضيئة في أسفل الشاشة، في العصر الذي قال هنري ميللر عن وسائل الترفيه فيه أنها «ليست سوى عكازات أصابتنا بالشلل»، ماذا يمكن للمرء أن يقول عن تلك “اللطخة” الجغرافيّة الجالسة بحشمة على شاطئ المتوسّط؟ هل أفتح صفحة جديدة في نفس الكتاب القديم الجديد، أم أمزّق كل شيء وأقول ما أريد أن أقوله، انطلاقًا من هذه اللحظة؟. الأكيد أن غزّة كقطعة علكة مضغتها إمرأة في منتصف الثلاثينات حتى العصر قبل أن تبصقها في شارع مزدحم فداستها باصات النقل العام غير مرّة قبل أن يأتي عامل نظافة بزيّ كئيب في آخر الليل ويكنس الأرض من حولها، وتظلّ هي ملتصقة بمصيرها البائس. الأكيد أنّ غزة، كموضوع للحديث، صارت شيئًا مبتذلاً. هذا بند إضافيّ من القائمة الطويلة التي عنوانها: أشياء لابدّ من الاعتراف بها.

أتذكر مرّة أن وسمًا انتشر على موقع “تويتر”. كان موضوعه متعلّقًا بالذكريات. راح شباب غزّة يسردون، في 140 حرف أو أقل، مشاهد انطبعت في ذاكرتهم عن الحياة في المدينة التي أحبّها الشافعي. كنت أقرأ ما يكتبون وأرتعب. لم يكن ثمّة تغريدة واحدة تبعث على المفاجأة، كلّ شيء مشترك. أصناف الطعام، البرامج التلفزيونيّة، صوت المطر على سقف الاسبست، حفلات فنانيين عرب وإعلاناتها في ميدان السّاحة، كر وفر الأمن الوقائي وشباب حماس، شجرة عيد الميلاد في متنزّه الجندي المجهول، كلّ تفصيل دقيق يشاركك فيه عدد ضخم من النّاس. نحن عائلة واحدة، لا بالمعنى الوطني ولا الجغرافي، بل بالمعنى المباشر للكلمة: نحن عائلة واحدة توزّعت على بيوت كثيرة، سواء أعجبنا ذلك أم أصابنا برغبة في الهرب.

في الأشهر القليلة الفائتة، غادر كثيرون غزّة. ربما تكون صدفة أنني أعرف الكثير منهم، أنّهم من نفس فئتي العمريّة وأن وجهتهم في الأغلب بلد لا يتحدث العربيّة، بعضهم خرج للتعليم، بعضهم تزوّج وسيستقر في الخارج، بعضهم خرج للعمل، والبعض خرج من أجل الخروج. في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين”، يقول ايلان بابه أن عدد المُهجّرين من فلسطين يربو على 700 ألف فلسطيني. السّوريون أيضًا صاروا لاجئين، غادر الآلاف منهم وتوزّعوا بين الأردن وتركيا ولبنان ومصر وبلدان مختلفة، العراقيّون نالوا نصيبهم أيضًا. المثير للسخرية أنّ أخبار الانتقال الجماعي ما عادت تحرّك شيئًا بعينه في داخلي. ربّما أتجرّأ وأقول أنّ رحيل فرد بعينه، بكلّ خصوصيّته، بكل غبائه وجماله، تدقّ أجراسًا في قصبتي الهوائيّة أكثر ما تفعل أخبار انتقال الآلاف قسرًا من أماكن تواجدهم. في زمن النزوج الجماعيّ والنكبات، لم نتعود على الرّاحلين طوعًا وفرادى. لم نتعوّد على دقّة الوجع المصاحب لذلك الرحيل، حزنٌ يمكن لي أن أشبهه بالألياف الضوئيّة، خفّة في الوزن وامتياز في الأداء.

لا أحكام عندي. لا قواطع ولا تأكيدات. لا ألوم من يقرر الرحيل إلى الأبد. لا ألوم من يقرر الغياب إلى أمد. لا ألوم من يشتم المدينة ويلعن دينها عشرات المرّات. لا ألوم من يعتبر أنّ عجزه عن احتضان حبيبته في الشّارع العام أكثر مركزيّة من الحديث عن الاحتلال . لا ألوم الباحثين عن الفرح، عن الدهشة، عن فسحة حريّة يمكن للفساتين فيها أن تتجلّى، وللآراء أن تُطرح، وللكتب أن تُشترى، وللأنخاب أن تعلو، وللذّات أن تتمدد تحت وقع المشاوير الطويلة. لا ألوم المسافرين أصحابي من غزّة، لا لأني أنا الآخر سافرت، بل لأنّي لا ألومهم. لست مستعدًا لاجتراع صراع وهميّ بينهم وبين الوطن، أو بينهم وبين الصمود والثبات والتحدّي. لست مستعدًا لاعطاء محاضرات ولا للتشكيك في الغاية والمراد. أنا فقط أشعر بالحزن حين يرحل أحدهم ويصير ثمّة مدة تقاس بالسنوات، لا بالأيام، يجب أن تمضي قبل لقائنا المقبل، وحديثنا المقبل عن الوطن، عن السياسة، عن غزّة وعن ما قصده أهل التاريخ واللغة حين قالوا أنّ معنى اسمها: «ما يُدّخر».


%d مدونون معجبون بهذه: