هذه الكوكبة من الأفكار، هذا الخليط من الآيدولوجيا والحب، لوحة الفسيفساء المنتصفة بين لون الطين، ولون الدم، هذه وليمة لأعشاب البحر التي نمت في رأسي، حتّى سمعت من الداخل أصوات موج لبحر مدينة بونة، وضفاف النهر الشّاهد على القادمين على ظهر خيل أو ظهر دبابة، وضفاف دجلة. تقوم هذه الرواية التي أبدعها حيدر حيدر على المزج بين حدثين مهمّين في التاريخ العربي الحديث، الثورة الجزائرية بشهدائها المليون، وثوراتٌ لم تنل حقها لا من النصر ولا من الاهتمام، ثورات قادها الشيوعيون العراقيون في البصرة والأهوار وصفوف الجيش العراقي في الخمسينات من القرن الماضي. ذلك المزج لا يقتصر على السرد التاريخي للأحداث، من نزول الفدائيين من الجبل إلى المدينة منتصرين ليبدأوا في هزم أنفسهم، وعزل “الأحمر بين بيّلا” وشتم “الاشتراكي بومدّين” وتشويه الصورة التي يراها العراقي القادم من البصرة “مهدي جواد” لبلاد كان يسمع عنها قصصًا تشبه الخيال في التضحية والفداء والانحناء على بساط الوطن، إلى اغتيال الضّابط “الايزرقاوي” برميه من الشرفة في فندقه في بون، وليس انتهاءً باستشهاد خالد أحمد زكي في حضن مهيار الباهلي في طين الأهوار والهزيمة، بل انّ ذلك السرد يتفشّى في الأحاديث العادية، في فناجين القهوة التي تجمع بين مهدي بطل الرواية في فصول كثيرة، وبين آسيا، الفتاة الافريقية التي يعود اسمها على القارة المشرقيّة التي تنجب أُناسًا عصبيين تصدّرهم للجزائر الباحثة عن التعريب والتخلّص من تبعات استعمار طال أمده، وبين جدلية فلّة بو عناب، الفدائية عند اللزوم، في تحوّلها من مقاتلة وسفيرة للثورة في القاهرة، إلى عاهرة تدير فندقًا صغيرًا مرّ عليه وعليها فيه الفلسطينيُّ والعراقيُّ والمصريّ، عربًا خائبين.
لغة الرواية عبقريّة، الانتقال الزمني عبقري، من مجرى النفس في الصدر ينقلك حيدر إلى مجرى نهدي آسيا، من بكاء مهيار على انقسام الحزب الشيوعي العراقي، إلى تناول البوفتيك والسلطة بالخس مع مهدي، من إعدام سلام عادل، إلى الصراع المحتدم بين ما هو باحث عن العروبة وما هو متمسّك بالفرنسي، وفي صفحات الرواية التي تزيد قليلاً عن الثلاثمئة، تنتظم قطع الدومينو قبل أن تبدأ بالسقوط، لتبدأ رحلة جديدة من تشرّد الشيوعي الهارب، ومن عروبة الفتاة التي نجحت بفضله في الثانوية وأكتشفت أنّ أمها ولدتها بعذوبة الماء وطعم الكرز، ومن جنون مهيار المتدين بشيوعيته المنحدر من قباب حسينيّات النجف، ومن عهر فلّة، ومن جمال بونة، والحنين إلى العراق.
مُنعت الرواية بحجة إساءتها إلى الاسلام، لم أجد فيها ما يسيء إليه، وهي وان اشتملت على عديدٍ من الالفاظ التي لا يمكن أن أصفها بالاعتيادية، والشتائم التي تربط بين قمّة المقدس وقاع المجاري، إلا أنّ كل ذلك لا ينفي أنها تصدر عن شخصيات مؤدلجة، بالشيوعية تارةً، وبالفرديّة المطلقة تارةً أخرى، وبالتالي فهي ليست ملزمة، ولا مسيئة للشريعة، بقدر ما هي سياسة رفض الآخر بالمطلق التي اتبعها من يرون في هذا الأدب حيادًا عن ألف باء الدين، والتديُّن. لا يدحش حيدر أيّ أفكار في ذهن القارئ، ولا يصوّر “يوتوبيا الشيوعية” إلا كاسقاط ساخر من الخيانة والمآل الحقير لليسار العربي عمومًا، والذي كان عنوانه في العراق ” عبيد الله بن ابي ضبعة الكلبي” الإله القومي الذي أمر باعدام المخالفين، والمختلفين، في قطار كان سيحملهم إلى سجن نقرة السيمان، فنجاهم ما نجاهم، وحفر غيرهم كمظفّر النواب نفقًا، بملعقة. تنتهي الرواية برقصة، رقصة تأتي عَرضًا بين عاشقين متيّمين، يهربان بالموسيقى و “حبّيتك وسع الغابات” من ضيق المجتمع، والمتسلقين كيزيد ولد الحاج، والتقسيمات الغبية لامة واحدة بين ما هو شرقيٍّ وما هو غربي. برقصة تنتهي الرواية، وبها تبدأ قصّة أخرى .. حروفها غير مرئيّة.
الأوسمة: قراءة, مدينة عنابة, مظفر النواب, نشيد الموت, وليمة لأعشاب البحر, القوميين العرب, الأدب, الثورة الجزائرية, الحزب الشيوعي العراقي, حيدر حيدر, رواية, سلام عادل, سيرة لاجئ, صدام حسين, عبد الكريم قاسم
أوت 20, 2010 عند 9:42 م |
وليمة لأعشاب البحر…
هذه الكوكبة من الأفكار، هذا الخليط من الآيدولوجيا والحب، لوحة الفسيفساء المنتصفة بين لون الطين، ولون الدم، هذه وليمة لأعشاب البحر التي نم………
أوت 22, 2010 عند 12:07 ص |
أفهم أنك تنصح بالرواية محمود ؟ أملكها ولكنني غير متشجعة لقراءتها .
لا أعرف لماذا أشعر بأن حيدر يكتب بنفس الطريقة التي تكتب بها مستغانمي الأمر الذي قررت على إثره أن أهدي الرواية لمن يريد 😀
أوت 22, 2010 عند 10:36 م |
نعم أنا أنصح بها،
ونسختي أهديتها أيضًا، لكن بعد أن فرغت منها تمامًا.
منورة.
أوت 22, 2010 عند 10:47 م |
ماشي لكان بقراها قريباً : ) وبهديها : D
عندي مجموعة كتب كبيرة نفسي حد يجي ياخدهم من عندي ، من بينها ثلاثية مستغانمي ما قريت غير ذاكرة الجسد وما عجبتني هالقد
بالمناسبة حاولت اسجل بموقع shbbk وما زبط ما بعرف وين المشكلة، عندك فكرة ؟ وكيف سجلت فيه ؟
أوت 22, 2010 عند 10:49 م |
خلص انتي اعطيني العنوان واذا صارت معجزة وطلعلي فيزا بمر باخدهم.
بالنسبة لshbbk هاد للامانة ما بعرف كيف سجلت فيه، بس غالبا عملت like ع الفيس بوك لاله، ومن وقتها والجماعة متابعيني وبيبعتوا تعليق فور ادراج التدوينة.
أوت 22, 2010 عند 10:51 م |
http://www.shbbk.com/
فوتي وجربي “أضف مدونتك”
أوت 23, 2010 عند 12:41 م |
رواية جميلة جدا..
هناك رواية أو هي قصة شعبية كنت أبحث عنها واسمها.. النملة..!
هل تعرفها ؟
أوت 24, 2010 عند 10:13 م |
بصراحة لا
لكن لو وجدتها او وجدت طريقا يقود اليها ساخبرك.
سبتمبر 17, 2010 عند 8:37 م |
[…] من مدونة لله ثم للتاريخ […]
ديسمبر 18, 2010 عند 11:42 م |
وليمة لأعشاب البحر…
هذه الكوكبة من الأفكار، هذا الخليط من الآيدولوجيا والحب، لوحة الفسيفساء المنتصفة بين لون الطين، ولون الدم، هذه وليمة لأعشاب البحر التي نم………
نوفمبر 28, 2012 عند 1:29 ص |
[…] من مدونة لله ثم للتاريخ […]