إنّ ردة فعلي الأولى، فلسطينيًا، على رواية “الطنطوريّة” للعبقرية الدافئة رضوى عاشور، هي استحضار مثل جدّي المأثور، الذي كان ليصدح به قائلاً لها، يا رضوى ” يسعد البز الي رضّعك “، ولك قارئي العزيز ان تستحضر جدّك أنت، وتقول في سرّك وفي العلن لرضوى : أنتِ يا سيدتي أخت رجال، من ظهر راجل، إمرأة بسبعين ألف مليون راجل، أنتِ الرسالة العشقيّة في جيب الفدائي الذي سبح عائدًا إلى بيروت، أنت جدعة، ومن جبينك بيطل الصبح. كم وددت ولا زلت يا رضوى، يا أمّ تميم، أن أهديكِ ثوبًا فلسطينيًا طرّزته أياد فلسطينيات من بلاد الطوق، ومن المنفى، ومن الداخل، ومن داخل الدّاخل في هذا العيد، بعد أن أهديتني الطنطورية، وصيدا، وعين الحلوة، ويبروت، والاسكندريّة، بعد أن أهديتني فيضًا من الدمع المسوّر بالفرح. ثمّة حالة تشبه تمامًا مشهدَ الرواية الأخير، حالة تبكي فيها وأنت تضحك، كأنّك تمامًا تقف – كرقيّة بطلة الرواية – على جانبي سلك شائك، بين الفرح، والحزن، بين الانتصار، والهزيمة.
كيف أكتب قراءةً ؟ ماذا أقول ؟ هل أقول للقارئ النظاميّ ان أسلوب رضوى كان كعادته، جزلاً حدّ البلاغة وبعيدًا في نفس الوقت عن التكلّف ؟ هل أهمس في أذن الأرشيف أنّ الاحداث لا تُسرد وانما تحتلّ اهتمامك احتلالاً من خلف متاريس، وتسقط قطرةً اولى، وثانيةً، فثالثةً، قبل أن تعصر الغيمة نفسها وينزل غيثها على الأرض وينمو بسرعة الضوء ورودًا وزنابقًا، تُهدى إليك، كما اهديت لبيروت بعد حصارها. انا لا أكتب قراءةً، أنا أحكي تمامًا كرقيّة، أحكي عن الطنطورية التي أقسمت أن أزورها، عن نساء عين الحلوة، عن ناجي العلي، وعن مستشفى عكا، وعن الفكهاني، وعن حركة أمل وحرب المخيمات، أنا أحكي الحكاية التي منذ هربت رقيّة واهلها إلى الخليل فعمّان فصيدا فبيروت فأبو ظبي فالاسكندريّة، فبوابة فاطمة في الجنوب اللبناني، وهي تُحكى، وترسم كما رسمها حسن على رمل المخيّم بالعصا، و”عفارم عليك يا صبي” هو جلّ ما أتمنى من حكايتها، تمامًا كما تمنّى حسن.
يعجبني، لا بل ويأسرني الكتاب الذي أتيقّن من أن كاتبه قد اقتنع بدوري كقارئ، فراح يعطي تفاصيل التفاصيل حقّها، يفتح المجلدات والمراجع والموسوعات، يسمع شهادة هذا، ويقرأ تجربة ذلك، قبل أن يبدأ بالكتابة. رضوى لا تعطيك تأكيدًا على أهميّتك أنت فحسب، بل تؤكّد على أهميّة المادة المقروءة كذلك، يستحيل أن تقرأ لها منشكحًا، تقرأ وأنت منشد، متجهِّز في أيّ لحظة للغناء، معمّر بيت النار، وزناد اللسان على وشك أن ينطلق ليصدح :
سبّل عيونه ومدّ ايده يحنونه
غزال صغير وكِيف أهلُه يبعونه
يا أمي يا أمي عبّيلي مخدّاتي
وطلعتْ م الدار ما ودعت خيّاتي.
إن المادّة المقدمة من تعابير شعبيّة، وألفاظ فلسطينيّة عاميّة، وأغانٍ وأهازيج، ومشاهد أفراح وطلبة فتيّات للزواج، لكفيلة بإدخال كائنٍ من كان، إلى داخل البيت الفلسطيني، وليعلم هذا العالم بمن فيه، ليعلم كيف يعيش الذين يموتون على الفضائيّات، ماذا يفعلون حين ياخذ الصحفيّون اجازة نهاية العام، في داخل خيمتهم، وراء متراسهم، في مركز أبحاثهم، وسفنهم الرّاحلة الى تونس، على فراش الزوجيّة، في المنفى، كيف ولماذا يكون الفلسطيني؟ كيف يتزوّج، وكيف يصير عاملاً في الخليج، وكيف يسبّ الدين في نصف الشارع، ويصلّي في رمضانَ التروايح ؟، اسمع معي :
إيويها .. لزينة الشباب وزينة الحار..ة
إيويها .. إن وصفت بالوصف ما وفيّت
إيويها .. أمير صغيّر وتلبق له الامـارة
..
إيويها .. بحنّة مكة جيت أحنيـكــــــي
إيويها، يا بدر ضاوي والحلى كله ليكي
إيويها، ما تلبق الحنّة الا لايديكي
إيويها ضلّيت أركض ورا الأجواد .. أناسبهم
إيويها هبّ الهوى ورماني علـى .. مصاطبهم
إيويها دعيت ربّ السما يحميهم .. وينصرهم
إيويها دعيت نصرة عزيز تجبر .. بخاطرهم.
كيف تنتهي الرواية ؟ بعد أن تتزوج رقيّة ابن عمها أمين، وتفعل فيه الحرب فعلها، وبعد أن يصير حسن في كندا، وعبد في باريس، وتلحق به مريم من الاسكندرية، في حين يستقر الصّادق في أبو ظبي، ما الذي يحدث ؟ بعد أكثر من خمسين فصلاً، في الفصل الثامن والخمسين تحديدًا، ما الذي يحدث ؟ هل تنحاز رضوى لاتفاقيّات السلام ؟ هل ترسم ” خارطةً ” للطريق ؟ لا لا ، رضوى تغنّي، وشخصياتها تغني، ويرسم فتىً من عين الحلوة، اسمه ناجي، يرسم المشهدَ بالقلم الأسود والفحم، يرسم طفلةً رضيعةً تقلّدها جدتها مفتاح الدار، بعد أن يحملها والدها من فوق سلكِ شائكٍ في جنوب لبنان/شمال فلسطين يرسم حشودًا تغنّي على جانبي البلاد، تنحاز رضوى للانتصار، للمقاومة، للفرح، للأرز المتناثر فوق جباه الفدائيين، وتنحاز رضوى إلي، وكذا تفعل رقيّة، أما الرواية، فتنحاز، لكنّها لا تنتهي ..
سيدتي،
لأنني أدرك أنّ من يصيبهم الملل في الأعلى، لن توصلهم شاشاتهم إلى هذا الشقّ الأخير من زفرتي، دعيني أهمس كلامًا بعيدًا عن الانشاء:
عارفة قديش عشقتك لما لقيت انك عاملة فهرس حتّى للمصطلحات الفلسطينيّة ؟ عارفة شو يعني شب فلسطيني عادي يعرف انه قرّاء عرب من كل نواحي هالاوطان يعرفوا شو يعني ” شباط ما عليه رباط ” شباط الي انولد فيه، صار من بعد حكياتك مثل بينضرب، في كل الدنيا، في كل العالم، عارفة اني بحبك ؟ آه بحبك، وروحي – كمان مرّة – يسعد البز الي رضّعك.
الأوسمة: مكتبة ايفان, موال فلسطيني, ناجي العلي, الفاكهاني, الاسكندرية, الشاي بالنعناع, الطنطورية, الطنطورة, باريس, ثوب مطرز, حرب المخيمات, حصار بيروت, دار الشروق, رقيّة, روايات, رواية الطنطورية, رضوى عاشور, سيرة لاجئ, سجائر, صيدا, عين الحلوة, عرس فلسطيني
نوفمبر 17, 2010 عند 10:27 ص |
بمعزل عن الرواية، وخارج المتن الأدبي تماما، وبما أنك ركّزت، على الأقل لونا، على حرب المخيمات، فإنني حتى اللحظة لم أستطع أن أحل هذا اللغز. رغم مطالعتي المكثفة للشأن اللبناني، وحربه الأهلية تحديدا، إلا أنني أقف حائرا أمام الأسباب الحقيقية الكامنة خلف ” حرب المخيمات “، وأطرح على نفسي سؤالا واحدا : هل كان يمكن تجنب هذه الكارثة؟! ولا أخفيك أن الشكوك لدي تتعاظم يوميا بأن ياسر عرفات يعشق الدم حتى وإن كان دم شعبه حتى يرقص عليه ويستعرض ويمارس ألعابه البلهوانية – التي يسميها المتيمون فيه تكتيكا وحذاقة – ويكسب مواقع وهمية، كما حصل عندما عاد إلى طرابلس وتحالف مع المشايخ – حركة التوحيد وعلى رأسها سعيد شعبان- وكان يدرك حينها أنه يخوض معركة خاسرة تماما، فحافظ الأسد لا يحب المزاح ولا الممازحين، وكان عرفات يعي هذا تماما، فما الذي فعله؟ سؤال حرب المخيمات معلق برسم الإجابة.
نوفمبر 22, 2010 عند 4:51 م |
أيّ لغز يا صديقي ؟ ليس ثمّة ألغاز ولا أحجيات، الذي حدث في حرب المخيمات يعرفه الكثيرون، يكفي أن أقتبس صحافيًا أجنبيًا شهد المأسآة وقال ” كان صوت ارتطام رصاص (أمل) ببعضه يشبه وقع المطر على ألواح الزينكو “.
ما فعله ياسر عرفات، سواء في الأردن، أو في لبنان، او حتى في أي مكان، لا يعني بالمرّة أن يقوم حافظ الاسد او غيره بمحاصرة مخيمات خالية من التحصينات الدفاعية بعد خروج المقاومة، ومنع الماء عن قاطنيها، أو يقوم الملك العبقري الراحل حسين بقطع اصابع الفدائيين وغرس السجائر في اجسادهم .
الاجابة هي الخيانة يا صديقي، خيانة هذه الانظمة من المحيط الى الخليج، الخيانة هي المعلقة برسم التاريخ.
ديسمبر 23, 2010 عند 2:21 م |
يا أخي هذا الموضوع أعجبني بشدة
شهادة جميلة وحقيقية
أتمنى أن تصل للدكتورة رضوى بحذافيرها …..
منذ بدأت في قراءة الرواية وأنا أتسائل هل ستعجب الفلسطينيين مثلما تعجبني، ،،
حتى أني راسلت الجميل “إبراهيم نصر الله” أريد أن أعرف رأيه فيها …
حقيقة نشعر بالفخر لأنها استطاعت أن تقدم كل هذا الصدق والأدب والجمال
.
شكرًا لك يا محمود
جانفي 3, 2011 عند 10:28 م |
الطنطوريَّة : رضوى عاشور, يسعد البز الي رضّعك!…
إنّ ردة فعلي الأولى، فلسطينيًا، على رواية “الطنطوريّة” للعبقرية الدافئة رضوى عاشور، هي استحضار مثل جدّي المأثور، الذي كان ليصدح به……
أفريل 24, 2013 عند 1:48 م |
اخحخ