المدن ليست فقط الأشياء المكشوفة المتاحة، وإنّما ما وراءها أيضًا. ع.ر.منيف.
عندما زرت مدينة الاسكندريّة للمرة الأولى أواخر 2010، ودخلت مكتبتها الشّهيرة، كتبت في دفتر الزوّار الضخم المليء بالتواقيع والجمل القصيرة: غزّة -أيضًا- تجيد القراءة وتحبُّ المكتبات. لم أفعل ذلك لدواع سياسيّة أو وطنيّة، فعلت ذلك لأنّ المدن (وغزّة احداها) هي أيضًا .. «ما وراءها». الظّاهر-المكشوف من غزّة إن لم تره عيناك في شوارعها فستراه في نشرة الأخبار، ستستمع إليه في الإذاعة، ستقرأه في بيان صحافي أو في الإعلان عن «مصالحة جديدة», ذلك الظاهر لا يوحي بأنّ غزّة تهتم بالثقافة أو بالقراءة، غزّة نشرة أخبار .. لا أكثر. لكنّ الماوراء هو الذي قد يكون عصيًّا على الرؤية/اللمس, هو الذي أردت بكتابتي تلك الجملة في دفتر الزوار، وهذه الكلمات، أن أوضّحه .. وأسقف به الكون إن أمكن.
صدّق أو لا تصدق، لكن غزّة ليست نشرة أخبار و «جبهة مقاومة» فحسب، ليست نفقًا وشاحنة مساعدات والسّلام. غزّة ليست انقطاعًا للتيّار الكهربي وغلاءً في الأسعار ومكانًا بعيدًا موغلاً في المجهول يتكدّس فيه أشخاص «ما قبل مدنيون» يعيشون ويموتون حيث يولدون، غزّة قبل كل شيء، وبالرغم من كل شيء .. مدينة. قد يكون ذلك نسبيًا (لعوامل اجتماعية بحتة)، لكنه واقعي وضروري؛ لعدّة أسباب, أهمُّها ربما هو كسر الحصار. لا أقصد بذلك كسر الحصار السياسي ولا التجاري المفروض منذ فوز حركة حماس في انتخابات سلطة أوسلو، لكن أقصد حصارنا نحن، حصار من فتحوا أعينهم على غزّة وكانت هي، لا غيرها، مدينتهم الأولى.
ضمير الجماعية في “حصارنا” ليس محصورًا بالمطلق في أهل غزّة فحسب، بل في كل الفلسطينيين. الكل يشعر بأن «مدينته» قد سرقت منه وأنّه قد حرم من التباهي بها وتقبيلها خلسةً والهرب من الفصل الدراسيِّ إلى حضنها الواسع. لكنّ غزّة، وأهلها، حصلوا على حصة الأسد من ذلك الحصار المقنّع. لهذا غالبًا ما تأتيك الإجابة حين تسأل صديقًا عربيًا قبيل عودتك إلى غزّة: «أجيبلك إشي معي؟», على شاكلة: «هيّ غزّة فيها حاجة؟». ليس ذلك تحقيرًا منه لها، إنّه مخرج طبيعي لهذا التشويه المتعمّد والمتراكم للمدينة، في ذهن أصحابها، وفي ذهن زائرها المفترض.
إحتفالية فلسطين للأدب 2012 تأتي لتساهم في كسر ذلك الحصار، ولتساعدنا على تطبيب جرحنا النرجسي. نعم، غزّة “فيها حاجات”, مش بس حاجة، تقول هذه الفعالية الأدبيّة. غزّة ليست عبيطة، بامكانها أن تحتضن الشّاعر والمثقف والرسّام (وإن كان الحضن سريًا حتى لا نزعج الأمن الداخلي)، وبإمكانها رغم حصارها السياسي والجغرافي أن تكون “مسرحًا”، وأن تغنّي كما تفعل القاهرة والاسكندرية وبيروت وعمان. تلك الاحتفالية، التي لن أتمكن من حضور فعاليتها داخل غزّة لوجودي في القاهرة، لا تشعرني بشيء قدر ما تشعرني بالفخر.
غير مرتبطة بمستنقع الـNGO’s وما يفوح منه من روائح “ثقافيّة”، ولا محتاجة إلى ختم إسرائيلي، ولا تهدف لإعطاء انطباع أنّ كل شيء على ما يرام (كما هي الحال في معظم الفعاليّات الثقافية/المَدينيّة في رام الله)، ولا تقوم على أسماء لا تمتلك الحد الأدنى من الاستيعاب لدور الثقافة المطلوب في فلسطين المحتلّة؛ تلك هي احتفالية فلسطين للأدب 2012. بمشاركة شخصيّات مثل علاء عبد الفتاح، عمرو عزّت، أهداف سويف، وفرقة موسيقيّة مثل اسكندريلّا, نضمن أنّ الفعاليّة تبتسم في وجه المدينة السّاحليّة، تتّسق تمامًا مع مجريات النضال الفلسطيني (آلاف الأسرى مضربون عن الطعام منذ أكثر من أسبوعين)، وتقول أنّ الربيع العربي مهما بلغت تعقيداته، وصعوباته، ومهما طال مخاض نتاجه النهائي، فلابدّ أن نسمة منه، او نسمتين، ستجدان طريقهما إلى شوارع عمر المختار وصلاح الدين والجلاء والوحدة كمحطة أولى قبل العبور إلى فلسطين-كل فلسطين.
سيتمكّن المهتمون بالثقافة والأدب من أهل غزّة إذًا من أن يستشعروا حصّة مدينتهم المتعبة (بفتح الباء أو بكسرها) من زغب الكلمات، وألوان الضّوء خلال الفترة من 5/5 إلى 10/5، سيعلمون أن الثقافة ليست بحاجة إلى “قصر ثقافة”, وأنّها ليست ذرًا للرماد في العيون بل مواجهة جادّة وواعية لـ”ثقافة القوّة” – كما يشير اعلان الفعاليّة-، وأنّهم ليسوا وحدهم في المعركة الأولى: معركة العيش.
الأوسمة: palfest, فلسطين, أنا من غزة وهواي يافاوي, القاهرة, المدينة, احتفالية فلسطين للأدب, سيرة لاجئ, غزة
ماي 4, 2012 عند 6:50 م |
مش عارفة شو أحكيلك بس بحياتي ما قرأت إشي عن غزة ولا شفتها بهالطريقة من قبل… شكراً. وأسلوبك في التعبير عن الفكرة والصور اللي بترسمها بتخليني أحس حالي عم بقرأ لكاتب متمرس ومحترف من سنين… يمكن تكون خليفة غسان كنفاني، مين بيعرف؟
ماي 4, 2012 عند 7:34 م |
تدوينة رائعة 🙂
ان شالله السنة الجاية بتكون موجود معانا
ماي 4, 2012 عند 10:03 م |
فش اشي ضلّ لينحكي. محمود الأروع دوما من غزة الأروع أبدا, شكرا الك.
ماي 5, 2012 عند 7:35 ص |
تدوينة رائعة ومتميزة حقاً
وزي ما قالت علا , إن شاء الله السنة الجاية بتكون عنا في غزة يا رب وتنورها 🙂
ماي 5, 2012 عند 10:40 ص |
ما يسعدني ان المقالة كتبت بقلم غزي 🙂
ماي 5, 2012 عند 1:54 م |
يعطيك العافيه .. كلمات جميله والاروع انها كتبت بقلم غزي
يعطيك الف عافيه أخى الكريم 🙂
ماي 11, 2012 عند 9:06 ص |
عجبتني نكهة هالخرّاف : )
ماي 13, 2012 عند 6:41 م |
you write beautifully!
جوان 6, 2012 عند 1:32 م |
ارتدت أشجارها براعمها الذهبية و تناست عذابها ، تفتحت زهراتها متأججة بالدفء و الضوء ونادت على عصافيرها المهاجرة عند الفجر حينما أصغت غزتنا بفخر لكاتبٍ غزيٍّ كأنت =(