رسالة إلى جدتي فاطمة


مساء الخير يا جدتي.

كيف حالكِ؟ وكيف هي الجنّة؟ هل هي نظيفة إلى درجة مقنعة، أم أنّك ما زلتِ تستيقظين كلّ صباح، تنزلين السلالم، وتتجهين إلى الحوش لتسحبي “بربيش” الماء المموّج بالأبيض والأخضر، تمهيداً لتعزيل “الفردوس” وشطفه ومسحه وتجفيفه؟ هل تحيطِ بكِ ملائكة مضيئة ساعة العصر التي تحبّين فيها افتراش الأرض وتأمل روعة الكائنات؟

وكيف هو الأكل؟ هل تعجبكِ أنهار العسل واللبن أم أنّك تشتهين، قبيل المغيب، طبقاً من السمك المملّح أو وجبة دافئة من فتِّ العدس، فتشترين من سوق الجنّة السوداء ما يلزمك من عناصر لتمزجيها بحكنة تُنسيها هيئتها الأولى، ثمّ تُخرجين من خزانة سريّة بين الأغصان والدوالي بابور كاز مدوّر، فتشعلين “النار” في الجنّة؟

بكيت كثيراً حين جاءني الخبر يا جدتي. حين مزّق جلدي وأعطب شيئاً ما في داخلي. حين نزل عليَّ نزول الهزيمة. وكنت أعرف على مدار الشهور الفائتة أنني سأفشل في سعيي الدؤوب للتهرب من الكتابة إليكِ. وكنت أعرف أنّ هذا الفشل سيضعني، وجهاً لوجه، مع فكرة تبعث على الرعب والانكسار. فكرة تتسمّر وسط واحدة من نواقلي العصبية. فكرة لا تتحرك. ترفض الحركة، وقد منعها الخوف من مواصلة الطريق. ماتت جدتي.

نعم يا جدتي. انقطع اتصالكِ بالعالم، وصار جسدك الصبور مدفوناً تحت الأرض. أنتِ، رغم كل هذا الحضور الطاغي في كل الدقائق والساعات، غير موجودة. كل تفكير فيكِ، وكل استحضار لذكرى معك، وكل لمحة من وجهك القمحي وهي ترتسم في قاع العين كشعاع من الشمس، كلّ ذلك يا جدتي خرج كلياً من “الآن”، وصار جزءًا من الماضي. كيان أبكم يسكن باطن الأشياء ويمشي خلسة بين العوالم. ها أنا قد اعترفت بذلك. كتبته. والكتابة، يا جدتي وحبيبتي، فعل شديد الصعوبة وعصيّ المنال.

أشتاق إليكِ يا جدتي. يغزو هذا الشوق أوردتي. يقرّبني ويدنيني. أشتاق إليكِ وقد حُرمت وداعكِ وتقبيل يدكِ مرة أخيرة طالباً منكِ الرضا والدعاء. أشتاق إلى يدكِ الصغيرة. كيف فعلت، بحجمها هذا، كلّ ما فعلت؟ كيّف شيّدت لا بيتا واحدا، بل عدّة بيوت؟ كيف أطعمت عددا لا نهائيا من الأفواه الجائعة؟ كيف غيّرت هذه اليد مجرى الشتاء ليصبح دافئاً، ومليئاً بالغناء؟

يداكِ جميلتان يا جدتي. وأعرف الآن أنهما كانتا أحنّ الأيادي اللاتي لمسنني على الإطلاق. حنانٌ حقيقيٌ، وأصيلٌ، وصافٍ، وموصول. حنانٌ نابع من قلب كبير، عظيم، ونبيل.

رحيلك يا جدتي دلّني على اليتم. أجلسني معه إلى نفس الطاولة. اليتم الذي تعرفينه وقد خطف الموت منك والدتكِ. خطفها في نفس لحظة مجيئكِ إلى الدنيا. يفرد اليتمُ أمامي شروطه، ويشرح لي حتميّته. ويعدني، إن أنا حاولت المغادرة، بأنّ ما هو آتٍ أخطر وأعظم. أنتِ تعرفين اليتم. تحفظينه عن ظهر قلب. لا تعرفين سواه. لم يكن لكِ أمُّ طيلة عمرك. كنتِ الطفلة التي ماتت أمّها أثناء الولادة. وكنتِ الأمّ لكلّ الأطفال الذين ولدوا من بعدك.

أتعرّف على اليُتم وقد جاءني واثقاً. عظامي سينخرها البرد، وقلبي ستصيبه الرعشة حين أعود إلى ذلك البيت الكبير وقد صَغُر وتقزّم بعد رحيلك. كيف سأدخل الغرف، وكيف سأتمشّى في الصالة وأتفقّد أشجار الحوش دون أن ألمح ظلّكِ أو أسمع صوتك؟ لمن، يا جدتي، سأحكي حكايا السفر والغربة، ولمن سأشتري الهدايا وأقضي النذور؟ وأيُّ معنى لأطفالي، إن أصبح عندي أطفال، إن هم لم يركضوا خلفكِ ويتلقّوا منكِ ألذ الشتائم وأشهاها وقد وسّخوا الأرض أو كسروا زجاج النافذة؟

أنا؟ أنا بخير يا جدتي. أعني أنني لست بخير. لكنني بخير. لديّ روتيني اليومي، وبعض الكتب التي أسدّ بها فراغات كثيرة في روحي. أنهيت الماجستير. زرت بلاداً كثيرة، وقلّ اهتمامي بكلّ البلاد. عدت من جديد إلى ممارسة الرياضة. أحاول قدر المستطاع أن أنوّع طعامي وأن أكون “إيجابياً” إزاء اليومي، والعادي، وأن أحافظ على اتصال وثيق بالقضايا الكبرى التي تهذب بوصلتي كلّما أصابها الضجر.

أشتاق إليكِ وإلى خراريفنا التي لا تنتهي. أتذكر جَلدكِ وعزمكِ وأقنع نفسي بأنّي سأجدكِ حين أعود. سأجدكِ حتماً في انتظاري. وعندها، سأحكي لكِ يا جدتي. سأشكو الدنيا لكِ، وسأخرج كلَّ ما في جوفي. سأقول كلَّ شيء.

أضف تعليق