أنا واحد من الذين ولدتهم أمّهاتهم أثناء حظر للتجوّل. أنتمي لجيل كان لا يزال يتعلّم كيف تنتصب القامة، ويكون المشي سليمًا لا ترنّح فيه، في الوقت الذي كانت فيه “القيادة” قد أتقنت فنون الزحف. ثلاثون شهرًا كان قد مضى على وجودي في هذا العالم عندما صافح ياسر عرفات إسحاق رابين معلنًا إنهاء الانتفاضة، ثلاثون شهرًا لم أكن أستطع خلالها أن أوزّع منشورًا، أو أن أكتب على حائط، أو أن أقذف جيبًا عسكريًا بالمولوتوف. كنت مشاركًا بصمت، كنت الخطة ب، أحد الذين لم يعايشوا الانتفاضة لكنّهم ما أن بلغوا سنّ الحنين الواعي حتى انكبوا على الكتب والملصقات، أصغوا بأذن شغوفة إلى مقابر الشهداء، سألوا البعيد قبل القريب، ودوّنوا ما حصّلوه من علوم ودموع في أقصى يسار الذاكرة، وهمسوا في أذن طموحهم: كلُّه سيلزم. اليوم، في الذكرى الرابعة والعشرين لانتفاضة الحجر، لا زال ذلك الكلُّ يلزم، ولا زال ذلك الكلُّ عصريًا ومعاصرًا، بل وربّما كان مُلحًا.
كيف لا يكون مُلحًا اليوم، وعشرات المنظمات والهيئات وأشباه المثقفين يزرعون في حقل الوعي الفلسطيني سمومًا على سبيل “بدنا نعيش”، أن نستحضر قول طفل في الخامسة عشرة من عمره، من مخيّم الدهيشة في بيت لحم، حين قال: “ما دام هنالك احتلال فنحن لا نملك حياة خاصّة”. إن هذه الجملة، على بساطتها، لموغلة في فهم الاحتلال ومعناه، ولقادرة لوحدها،بمفرداتها البسيطة، على أن تهدم كلّ ما بنوه من مجمعات تجاريّة تبيع النّاس اغترابًا، وصروح ثقافيّة شعارها الأوحد تشويه الثقافة.
شكرًا لأنّك تحبّ لهجتي. الفلسطينيّون نادرًا ما يغيّرون لهجتهم، ربّما كان ذلك لصعوبة تغييرها، وربما لأنهم ببساطة لا يريدون ذلك، المؤكّد أنّ التحرير يتقبّل لهجتي القرويّة الفلسطينيّة ويسمعها كما يسمع أحمد رامي أمّ كلثوم.
شكرًا لأنّك تفتّشني. شكرًا لمن يبحث في جيوبي، يفتح حقيبتي ويستغرب من رواية لميلان كونديرا أحملها معي. في فلسطين التفتيش يعني أمرين: الاحتلال ( وهو سيء ) والسلطة الوطنية ( وهي أسوأ ). في فلسطين التفتيش يعني الإهانة، يعني فرد الرّوح على الطاولة، وتشريحها على عجل. التفتيش يعني الحاجز، يعني الانتظار، يعني الفصل العنصري؛ أمّا في التحرير فالتفتيش يعني الأمان، ويعني الطمأنينة.
شكرًا لأنك تدعني أدخل؛ هكذا، ببساطة، دون توصيات، دون موافقات أمنيّة، دون تأشيرة، ودون شتيمة تمارس عزفًا بذيئًا على طبلة أذني. شكرًا لأنك بلا ختم إسرائيلي، وبلا شبّاكين: واحد لغزّة، والآخر للضفّة. بلا سفارة، وبلا استعجال خشية الاغلاق، وبلا حديث إسلامي مؤقّت ينتعله اللسان بغية الحصول على “تزكية” من حكومة تحبّ الله كثيرًا.
والنسيان، كما أظنّه قصده، هو ذاك الذي يتسلل، لا الذي يتم إدخاله عمدًا، إلى بيوت الذاكرة. النسيان العادي، الناعم، الذي لا يملك أجندات خارجيّة. ومع ذلك فهو في رأي الراحل الأديب، ورأيي المتواضع، آفة ومصيبة سودة. فما بالكم بنسيان متعمّد، بمنظومة كاملة يُراد بها شطب الذاكرة وجعل النسيان إدمانًا وصلاةً تُقرّب المواظب عليها إلى قلب الحاكم وفردوس “الواقعية السياسية”، منظومة يأتيها الدعم من أقصى شمال أوروبا ومن بلاد النفط. تختلف العناوين والغرض واحد: النسيان المعتمّد وخلق جيل لا يملك مساحة في التّاريخ، ولا يجرؤ على أن يضع اصبعه في عين المستقبل، جيل لا يعلم أن الفارق بين البندقيّة والوردة فارق توقيت لا أكثر. بماذا يوصف ذاك النوع من النسيان الذي يراد لنا أن نمارسه؟ النسيان الذي سيعمينا عن بوستر كهذا طبع قبل حتى يفكر الهبيلة أبو مازن في كل هذه الدوشة إزاء ايلول ويزمّر له الحالمون بدولة جيب الكنغر. أعتقد أن بئرًا من الخراء ليترفّع ويرفض بكل قواه الخرائيّة أن يشبّه به، فهو نسيان الاتفاقيّات، والعناوين المبدّلة، والنصف موقف، والربع محاولة. ولذا؛ هذه محاولة صادقة للضغط في الإتجاه الآخر، في إتجاه الذاكرة، في إتجاه البعد عن الآفة، ونحو حارة أفضل.