أبو رمزي رجل في الأربعينيات من عمره، يجيد التحدث منذ ولادته بسبع لغات، يكره الناس ويمقت الوحدة، وسيحتفل خلال فترة قصيرة بعيد ميلاه. جاء أبو رمزي إلى الحارة منذ زمن يقدّره المتعلمون بعشرات السنين، في حين يصرّ الطاعنون في السنّ أنّ أبا رمزي أقدم من الحارة، وأنّ الحارة انما نبتت حوله كما ينبث العشب حول نهر جارٍ. رمزي، ابنه البكر، قتلته اسرائيل وهو يلعب كرة القدم في زقاق ضيّق. لم يستطع أبو رمزي تجاوز ذلك، شعر بالحقد تجاه جيش الدفاع وتجاه الله، لماذا تمنحني إيّاه ما دمت ستأخذه أمام عينيّ؟ لماذا تصرّ على إظهار جبروتك عليّ أنا الكائن-النملة بهذه الطريقة الوحشيّة؟ كان دومًا يتمتم بتلك الأسئلة وهو يتنقّل في شوارع الحارة نصف سكران ونصف فيلسوف. كان عزاء أبو رمزي أنّ كل أطفال الحارة يعتبرونه في منزلة أبيهم، ولربما كان فعلاً أبًا لكثير منهم، وحدها الشياطين تعلم من ضاجع أبو رمزي من نساء الحارة ومن لم يضاجع.
على دربك أبو رمزي.
عمل أبو رمزي في كل شيء. كان حدادًا، ونجارًا، وسبّاكًا، وطبّاخًا، ومختصًا في إقناع أي عائلة بتزويج ابنتها لأي شاب يرى فيه الجدعنة والعزم، ولكنه قبل كل شيء كان فدائيًا. لم ينتم إلى حزبٍ أو حركة سياسيّة ولم يكن يومًا جزءً من تيار فكري معيّن. الدرب الواصل من قعر المخيّم إلى قمّة العملية المقاوِمة كان دربًا يرسمه أبو رمزي لنفسه بيديه العاريتين، يحفره بأظافره، ويمشيه بقدميه الثابتين ومن ثمّ يتركه مفتوحًا واضحًا لمن أراد السير على خطاه. لم يجهد عقله في البحث عن نظريّات كبيرة معقدة للتأكيد على وجوب القتال، كان الأمر واضحًا في رأسه المغطّى بالشعر الأسود الممزوج بالأبيض: إسرائيل قتلت ابني ونكّدت عليّ عيشتي. الله لا يريحني إن بريّحها!
أثناء عمله الفدائي، لم يكن أبا رمزي ليدّخر أي جهد في البحث عن المتعة. كان يقاوم مبتسمًا، ويعود ليقصّ على أهل الحارة المجتمعين حوله عند ترنس الكهرباء ما يبهجهم ويشرح أساريرهم. حكى بصوته الرخيم الواثق كيف كان يسطو على شحنات البيرة التي ترسل للكتائب الصهيونيّة المرابطة على الحدود. وكيف كان يسير مرّةً قرب بيت العرابيد في المخيّم عندما وجد جيبًا عسكريًا إسرائيليًا يحوم حوله. إتّخذ أبو رمزي وضعيّة دفاعيّة وامتشق “الكارلو” وبدأ يطلق النار على الجيب. في أقلّ من ثلاث دقائق كان الجنود الأربعة بين قتيل وجريح. فتح أبو رمزي باب الجيب العسكري فتدحرجت الجثة من مقعد السائق إلى الأرض. نظر الجندي الجريح بعينيه الزرقاوين إلى سواد مقلتي أبا رمزي وقال: بتقتلني يبو رمزي؟. فردّ عليه: آه بقتلك!، فمات الجنديّ من هول الصّدمة. لقد قتلته بإصراري قبل بندقيّتي، ذلك العرص المسلّح. قال أبو رمزي وهو يضحك والجمع يضحك معه.
لا تستغرب إن أخبرتك أنّ هذا الرجل الذي كان يمكنه رفع عربة رينو 504 بيد واحدة، كان يتكوّر على نفسه باكيًا إذ رأى قرنفلة أو زهرة حنّون وقد نمت على القارعة. الطبيعة والمرأة كانتا التوليفة التي تحوّل أبا رمزي من فدائيّ عنيد إلى طفل في الخامسة من عمره. أخبرني أحدهم مرّة أنّ أبا رمزي كان معجبًا بفتاة في الحارة المجاورة، وقد علم من مصادره (وما أكثرها) أنّ تلك الفتاة تعشق الفراولة؛ فذهب بنفسه إلى بيت لاهيا وقطف لها سلّتين كبيرتين (لك أن تتخيّل المخاطرة-أولئك الفلاحون في بيت لاهيا مستعدون لقتلك إن سرقت منهم حبة فراولة واحدة). عاد أبو رمزي بالسلّتين ووضعهما ليلاً على شرفتها بعد أن وصل إليها بقفزة واحدة. في صباح اليوم التالي، استيقظت الفتاة وخرجت لتحظى بقسط معقول من ضوء الشمس وهواء الوطن فوجدت السلّتين وعليهما ورقة مأخوذة من كرتونة سجائر مالبورو أحمر مكتوب عليها: “مع الحب .. أبو رمزي” فلم تستطع تمالك نفسها من الفرحة. انهارت ومال جسدها على السور الحديديّ فانتهى بها الأمر ملقاةً على الأرض تنزف من كل ثقب في جسدها. , وصل الخبر إلى أبي رمزي فجاء راكضًا وأمسك بها، واضعًا رأسها على صدره. نظرت إليه وقالت: بتحبني يبو رمزي؟ فأجاب وهو يغرس يديه في شعرها: آه بحبك! .. فماتت من الصدمة.
ما بين العمل الفدائيّ، وأسر قلوب العذارى (والمتزوجات)، واللعب مع الأطفال، وقراءة الكتب، ورسم السكيتشات، والعزف على النّاي، كان يقضي أبو رمزي أوقاته في المخيّم وما حوله، هكذا إلى أن وقّعوا أوسلو. لم يذكر في التاريخ الفلسطيني المعاصر أن أحدًا سبّ الدين والرب بالطريقة والكميّة التي سبّ بها أبو رمزي دين ورب القيادة. كاد قلبه يتشظى إلى ألف قطعة، لكنّ شيئًا ما أنقذه، لعلّه الأمل؟. قضى أبو رمزي أعوامًا طويلة يحاول إقناع الجميع بأنّ هذا خراء، مهما أعطتنا فرنسا من عطور، ومهما أمّدتنا أمريكا بالمال والكنتاكي، فسيظل هذا خراءً، ولكن أحدًا لم يقتنع. هكذا حتّى جاء فصيل آخر فانقلب على القيادة التي كانت قد اعتقلت أبا رمزي مرّات عديدة بعد أن فقدت الأمل في إمكانية رشوته بمنصب أو بزّة عسكريّة. استبشر أبو رمزي خيرًا لكنّ المودّة لم تستمر. تبيّن أن العهر عهر حتى وإن نمت له لحية. عاد أبو رمزي إلى السجن الذي غيّروا اسمه وما غيّروا غايته. دُقّ مسمار آخر في نعش مُتخيّل، وسُكب الملح على الجرح في قلب عاشق.
تغيّر أبو رمزي. أصبح يمشي ببطء ويعاني حين يبتسم. لن أتجرّأ على القول بأن شعلة الحياة في داخله قد انطفأت، لكنها خفتت، خفتت إلى حدٍّ بعيد. قال لي في مقهى رديء يقدّم قهوة مكذوبة: ما عدت أحتمل، حتى الكارلو عثروا عليه وصادروه. سأسافر، سأبتعد حتى أقترب، لا تناقشني، أخبر أهل المخيّم. ومن ثمّ رمى السيجارة في المنفضة وقام و قبلني بشفتين كان ملسهما على خدّي أشبه بقشر البرتقال. رحل أبو رمزي، لم يخبرني شيئًا عن وجهته ولا عن موعد العودة، لكنّ أحدًا جاء من بلد بعيد عبرها أبو رمزي وقصّ علي، وعلى الجمع حول ترنس الكهرباء، أنّ أبا رمزي قضى هناك عدة أيّام بين المقاهي والعمارات الطويلة على النهر العظيم، وتوجّه في آخر يوم إلى الميدان الأعظم، اشترى قطعة قماش رسم عليها مثلّت وثلاث مستطيلات، ثمّ اختفى!
المدن ليست فقط الأشياء المكشوفة المتاحة، وإنّما ما وراءها أيضًا. ع.ر.منيف.
عندما زرت مدينة الاسكندريّة للمرة الأولى أواخر 2010، ودخلت مكتبتها الشّهيرة، كتبت في دفتر الزوّار الضخم المليء بالتواقيع والجمل القصيرة: غزّة -أيضًا- تجيد القراءة وتحبُّ المكتبات. لم أفعل ذلك لدواع سياسيّة أو وطنيّة، فعلت ذلك لأنّ المدن (وغزّة احداها) هي أيضًا .. «ما وراءها». الظّاهر-المكشوف من غزّة إن لم تره عيناك في شوارعها فستراه في نشرة الأخبار، ستستمع إليه في الإذاعة، ستقرأه في بيان صحافي أو في الإعلان عن «مصالحة جديدة», ذلك الظاهر لا يوحي بأنّ غزّة تهتم بالثقافة أو بالقراءة، غزّة نشرة أخبار .. لا أكثر. لكنّ الماوراء هو الذي قد يكون عصيًّا على الرؤية/اللمس, هو الذي أردت بكتابتي تلك الجملة في دفتر الزوار، وهذه الكلمات، أن أوضّحه .. وأسقف به الكون إن أمكن.
صدّق أو لا تصدق، لكن غزّة ليست نشرة أخبار و «جبهة مقاومة» فحسب، ليست نفقًا وشاحنة مساعدات والسّلام. غزّة ليست انقطاعًا للتيّار الكهربي وغلاءً في الأسعار ومكانًا بعيدًا موغلاً في المجهول يتكدّس فيه أشخاص «ما قبل مدنيون» يعيشون ويموتون حيث يولدون، غزّة قبل كل شيء، وبالرغم من كل شيء .. مدينة. قد يكون ذلك نسبيًا (لعوامل اجتماعية بحتة)، لكنه واقعي وضروري؛ لعدّة أسباب, أهمُّها ربما هو كسر الحصار. لا أقصد بذلك كسر الحصار السياسي ولا التجاري المفروض منذ فوز حركة حماس في انتخابات سلطة أوسلو، لكن أقصد حصارنا نحن، حصار من فتحوا أعينهم على غزّة وكانت هي، لا غيرها، مدينتهم الأولى.
ضمير الجماعية في “حصارنا” ليس محصورًا بالمطلق في أهل غزّة فحسب، بل في كل الفلسطينيين. الكل يشعر بأن «مدينته» قد سرقت منه وأنّه قد حرم من التباهي بها وتقبيلها خلسةً والهرب من الفصل الدراسيِّ إلى حضنها الواسع. لكنّ غزّة، وأهلها، حصلوا على حصة الأسد من ذلك الحصار المقنّع. لهذا غالبًا ما تأتيك الإجابة حين تسأل صديقًا عربيًا قبيل عودتك إلى غزّة: «أجيبلك إشي معي؟», على شاكلة: «هيّ غزّة فيها حاجة؟». ليس ذلك تحقيرًا منه لها، إنّه مخرج طبيعي لهذا التشويه المتعمّد والمتراكم للمدينة، في ذهن أصحابها، وفي ذهن زائرها المفترض.
إحتفالية فلسطين للأدب 2012 تأتي لتساهم في كسر ذلك الحصار، ولتساعدنا على تطبيب جرحنا النرجسي. نعم، غزّة “فيها حاجات”, مش بس حاجة، تقول هذه الفعالية الأدبيّة. غزّة ليست عبيطة، بامكانها أن تحتضن الشّاعر والمثقف والرسّام (وإن كان الحضن سريًا حتى لا نزعج الأمن الداخلي)، وبإمكانها رغم حصارها السياسي والجغرافي أن تكون “مسرحًا”، وأن تغنّي كما تفعل القاهرة والاسكندرية وبيروت وعمان. تلك الاحتفالية، التي لن أتمكن من حضور فعاليتها داخل غزّة لوجودي في القاهرة، لا تشعرني بشيء قدر ما تشعرني بالفخر.
الأسير المعتقل إداريًا الحُر فعليًا خضر عدنان المضرب عن الطعام منذ أكثر من 60 يومًا، السلام عليكَ وبعد:
مكتوب في نشرة الأخبار أنّك تواجه خطر الموت. أنا أكتب لك هذه الكلمات لأنني، عدا عن كوني غاضب منك ومستاء من أخبارك، أواجه خطر الحياة. الحياة اليوميّة بتفاصيلها الكئيبة يا خضر. أكتب لأنّ الجَمع من حولي مشغول فيما أنا مشغول فيه، والكل ينظر في عين من يجاوره كتفًا إلى كتف – لا فسحة للشيطان بيننا كما تعلم، ما عاد الشيطان ضروريا – نظرة استحقار من عين تكاد تشرع بالبكاء. بكاء كالذي اعترى جنود بني أمية وهم يسرقون حليّ نساء بيت النبي. نبكي ونسرق يا خضر، نبكي ونسرق.
أكتب إليك لأسأل: من تحسب نفسك؟ ها؟ من أين جئت بهذه القدرة الموجعة على اللامبالاة؟ كيف تسرّب هذا الكمُّ الهائل من الجَلد إلى جلدك؟ ماذا خطر في بال الله وهو يقلّبك طينًا بين يديه؟ أبشرٌ أنتَ مثلنا أم لك كفّ مضاءة وأفعى تسعى؟ هل تتبرّز وتبصق على الأرض ويطول شعرك وتختبر شكوكًا عميقة في كلّ شيء من حين إلى آخر؟ وكيف نجوت، أعني: لو كنت بطلاً وراجل قد كلمته، كيف في زماننا هذا نجوت؟ أجب!، قل أيّ شيء، دعني أسمع صوتك تتلقفه جبال فلسطين، والويل الويل لك لو ذكّرتني بسيناء القريبة وانهار على إثر صوتك أحدها!
قاسٍ أنت يا خضر.
العشرات، وربّما المئات، غيروا صورة الفيس بوك إلى صورتك. العشرات، وربّما المئات، خرجوا في مسيرات تضامنيّة وأشعلوا الشموع، العشرات، وربّما المئات بل وربما الآلاف من عاهرات وعاهري وداعرات وداعري هذا الوطن السعيد أتوا من كل حدب وصوب يلهثون وراء فلاش الكاميرات وأسلاك الميكروفونات ليجدوا أنفسهم، دون تخطيط مسبق، في حضرتك أنت، تسلّم عليهم وتطلب منهم الجلوس والهدوء قبل أن تبدأ في إلقاء درسك اليوميّ عن الأخلاق والأمراض المنقولة جنسيًا. أيُّ عذاب هذا يا خضر؟ أيُّ عذاب سببت لنا، ولي أنا، على وجه الخصوص؟
هل تصلك في أرض الأبطال التي أنت فيها أخبار أسعار المحروقات؟ هل تعلم أن لتر البنزين في غزّة شارف سعره على الأربع شواكل؟ هل جاءك حديث الراتب؟ وشتم شرطة المرور؟ وتوقيع المصالحة للمرّة المليون؟ وأسماء قرىً يسرقها الحاجز ليتسمّى بها فتضيع القرية ويظلُّ الحاجز؟ هل عندكم مواتير وسهرات شواء وحفلات زفاف في فنادق خمس نجوم؟، هل تشعرون، أنت وصحبك، ولو بقليل من العجز الذي ينخر عظم السواد الأعظم؟
اسمع يا خضر، خارج سجنك، خارج وجهك، خارج عينيك .. “الحياة” باتت جداول يا عزيزي، جدول رواتب، جدول انقطاع كهرباء، جدول حواجز، وأنت تتجاهل ذلك وتتناساه وتحدثنا بكل برود عن الشّعر الحر ورفض الواقع. نحاول ارتجال شيء للحفاظ على ماء الوجه فنشيّد لك خيمة اعتصام أمام الصليب الأحمر ويقترح أحدهم (قصة حقيقية) أن نقيم من أجلك أمسية شعرية ولا نقعدها! سنقصفهم بالكلمات وندكّ أسوار السجن بالمجازات ونشبعكَ مديحًا يا أيُّها المضرب عن الطعام. الحياة جداول يا عزيزي، وما دمت حيًا تصارع، ستظلُّ تؤلمني وتنغص عليّ حياتي (كم هي مؤلمة هذه المفردة)، تقع مني في هذا الزحام فأنكسر. أمّا حين تموت .. فسنأتي من كبار السنّ والمجانين والصناديق العتيقة بالجدول الأوّل – جدول الشهداء – ونكتب اسمك ونمضي .. ويُقال أننى نكاد ننسى .. حتى يجيئنا نبيُّ آخر غيرك.
شكرًا لأنّك تحبّ لهجتي. الفلسطينيّون نادرًا ما يغيّرون لهجتهم، ربّما كان ذلك لصعوبة تغييرها، وربما لأنهم ببساطة لا يريدون ذلك، المؤكّد أنّ التحرير يتقبّل لهجتي القرويّة الفلسطينيّة ويسمعها كما يسمع أحمد رامي أمّ كلثوم.
شكرًا لأنّك تفتّشني. شكرًا لمن يبحث في جيوبي، يفتح حقيبتي ويستغرب من رواية لميلان كونديرا أحملها معي. في فلسطين التفتيش يعني أمرين: الاحتلال ( وهو سيء ) والسلطة الوطنية ( وهي أسوأ ). في فلسطين التفتيش يعني الإهانة، يعني فرد الرّوح على الطاولة، وتشريحها على عجل. التفتيش يعني الحاجز، يعني الانتظار، يعني الفصل العنصري؛ أمّا في التحرير فالتفتيش يعني الأمان، ويعني الطمأنينة.
شكرًا لأنك تدعني أدخل؛ هكذا، ببساطة، دون توصيات، دون موافقات أمنيّة، دون تأشيرة، ودون شتيمة تمارس عزفًا بذيئًا على طبلة أذني. شكرًا لأنك بلا ختم إسرائيلي، وبلا شبّاكين: واحد لغزّة، والآخر للضفّة. بلا سفارة، وبلا استعجال خشية الاغلاق، وبلا حديث إسلامي مؤقّت ينتعله اللسان بغية الحصول على “تزكية” من حكومة تحبّ الله كثيرًا.
والنسيان، كما أظنّه قصده، هو ذاك الذي يتسلل، لا الذي يتم إدخاله عمدًا، إلى بيوت الذاكرة. النسيان العادي، الناعم، الذي لا يملك أجندات خارجيّة. ومع ذلك فهو في رأي الراحل الأديب، ورأيي المتواضع، آفة ومصيبة سودة. فما بالكم بنسيان متعمّد، بمنظومة كاملة يُراد بها شطب الذاكرة وجعل النسيان إدمانًا وصلاةً تُقرّب المواظب عليها إلى قلب الحاكم وفردوس “الواقعية السياسية”، منظومة يأتيها الدعم من أقصى شمال أوروبا ومن بلاد النفط. تختلف العناوين والغرض واحد: النسيان المعتمّد وخلق جيل لا يملك مساحة في التّاريخ، ولا يجرؤ على أن يضع اصبعه في عين المستقبل، جيل لا يعلم أن الفارق بين البندقيّة والوردة فارق توقيت لا أكثر. بماذا يوصف ذاك النوع من النسيان الذي يراد لنا أن نمارسه؟ النسيان الذي سيعمينا عن بوستر كهذا طبع قبل حتى يفكر الهبيلة أبو مازن في كل هذه الدوشة إزاء ايلول ويزمّر له الحالمون بدولة جيب الكنغر. أعتقد أن بئرًا من الخراء ليترفّع ويرفض بكل قواه الخرائيّة أن يشبّه به، فهو نسيان الاتفاقيّات، والعناوين المبدّلة، والنصف موقف، والربع محاولة. ولذا؛ هذه محاولة صادقة للضغط في الإتجاه الآخر، في إتجاه الذاكرة، في إتجاه البعد عن الآفة، ونحو حارة أفضل.